عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

تجربة الجسد في حضرة مداحة: قراءة سيميوأنثروبولوجية (الحلقة السابعة)

تجربة الجسد في حضرة مداحة: قراءة سيميوأنثروبولوجية (الحلقة السابعة)


الحلقة السابعة
تجربة الجسد في حضرة مداحة: قراءة سيميوأنثروبولوجية
يتشكل التراث الفرجوي الشعبي لفرقة مداحة، من قسمين أساسيين: قسم غنائي منطوق، وقسم حركي صامت، ولكلا القسمين دوره ووظيفته ودلالته، ولا يمكن الاهتمام بالمنطوق والعزوف عن غيره، المتمثل في الوسائل الخطابية الإشارية والتي تسهم، في كثير من الأحيان، في إعادة قراءة تاريخ المجتمع الذي ينبعث من تلقائية الجسد (( عبر الحركة الجماعية أو الذاتية المشاهدة المتوارثة المتداولة أو الحركة الإيمائية الإشارية الجسدية..إذ أن الحركة فعل اتصالي.)) ــ محمد أضرور، المقاربة التواصلية وديداكتيكية اللغات، مجلة الدراسات النفسية والتربوي، العدد11، كلية علوم التربية، الرباط، 1990،ص.73 ــ. وقديما قيل: رب إشارة أبلغ من عبارة. وإذا كانت الإشارة عمل إنساني يهدف إلى إقرار واقع خارجي وإبلاغه للآخرين، وهي بذلك وسيلة لنقل المعنى من ميدان التخاطب باللغة إلى ميدان التخاطب بالصمت، فإن العلامة تتكون من صورة حسية يتم إدراكها بحاسة من الحواس الخمس السمع أو اللمس أو البصر أو الشم أو الذوق وتتأسس هذه الصورة على ما يتواضع عليه إثنان أو مجموعة من المتخاطبين ــ عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر،1986،ص.32ــ . ولأن العلامة توجد مبثوثة في كل مكان وزمان يشغله الإنسان، فإن علماء السيمياء، وهي العلم الذي يدرس حياة العلامات أيا كان مصدرها ونوعها في إطار الحياة الاجتماعية، ينظرون إلى كل شيء في الحياة الاجتماعية على أنه نظام سيميولوجي ــ بيرغو، علم الإشارة والسيميولوجيا، ترجمة: منذر عياشي، دار طلاس،ط1،1998،ص.10.11..ـــ، نظام أو نسق مكون من مجموعة من العلامات، التي لا تتوقف عند المعطى اللساني، بل تمتد لتشمل كل أنماط وتجليات الترميز الثقافي، وتتوسل بوسائط أخرى غير الوسيط اللغوي، في الظهور والاشتغال، لتصنع مجتمعة لحمة التداولات الرمزية في المجتمع والثقافة. ــ دليلة زغودي، العلامة السيميائية وجسدية السيميوز، مجلة الأثر، الجزائر، العدد23 ديسمبر 2015،ص.127 إلى 136.ص.128ــ  بما في ذلك خطاب الجسد، إذ يعتبر هذا الأخير نسقا تواصليا له امتدادات في كل مناحي الحياة، ذلك أن الجسد ليس مجرد كتلة كلية (بدن)، يستقر في بوتقة واحدة وجامدة، بل إنه كيان متحرك له خطاب خاص إيمائي ينم عن علامات سيميولوجية كثيرة تكون محل تفكيك أو تأويل من طرف المتلقي من أجل إنتاج الدلالات والتواصل، بل الأكثر من ذلك أن الجسد هو المبدأ المنظم للفعل وهو الهوية التي بها نعرف وندرك ونصنف، وهو الواجهة التي تخون نوايانا الأكثر سرا، (وليس غريبا أن نلح في الحديث عنه، ونتغنى بجماله، ونربت عليه، وننصت إليه، في قوله وفعله، وفي جده وهزله، في سكناته وحركاته، ونهتم به حيث يصحو ويغفو، وينشط ويكسل، ويتألم وينتشي، ويذبل وينتهي) ـــ  جميل عبد المجيد، البلاغة والاتصال، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 200،ص.68 ـــــ وبالتالي، فإن الجسد يشكل نسقا منفردا ضمن أنساق أخرى، تلوذ جميعها بالكون بحثا عن معنى وعن دلالة، فإذا كانت كل الأشياء لا تدرك إلا من خلال تعالقها بهذا الكون اللامتناهي الامتداد، فإن كينونة الجسد تكمن أيضا في ارتباطه بكون ما، فجسدنا لا يوجد في الفضاء، بل إنه الفضاء ــ تجليات الجسد، تجليات الإنسان، افتتاحية مجلة إبداع، العدد التاسع، ديسمبر1997،ص.4، أوردته: ذ. جنات زراد، خطاب الجسد ونظلم التواصل الإشاري في المرويات الشفاهية الشعبية، موقع صباح الأنباري على النت ــ وبالتالي، فإن للجسد، كدال متكامل، قراءة خاصة، غايتها الكشف عن الطرق التي ينتج بها الجسد دلالاته اللامتناهية، والدلالات نفسها هي طاقات أو قدرات كامنة فيه، وهي متنوعة ومتعددة، بتنوع وتعدد، الأنماط الصانعة لكينونته، ويتطلب فهمها أو تفكيكها وتأويلها، الغوص عميقا في شبكات الحقل الثقافي المنخرطة فيه. من منطلق (أن وجود الإنسان هو وجود جسدي)، ــ دافيد لوبرتون، أنثروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة: محمد غلاب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت،1993، ص.5. ــ. وأن وجود المجتمع رهين بوجود تجارة العلامات ــ إمبرتو إيكو، العلامة: تحليل المفهوم وتاريخه، ترجمة: سعيد بنكراد، كلمة والمركز الثقافي العربي،ط1، بيروت، الدار البيضاء،2007،ص.203 ــــ .وعلى اعتبارأن الجسد تكتنفه وتخترقه شبكة معقدة من العلامات والرموز، بحيث الجسد الخاص هو غلاف حواسي/ بدن حركي وغلاف نفساني/ إدراكي ورمزي، يقع كحد مشترك بين الأنا والعالم أو بين الأنا والآخر ــ أنزيو ديديي، الأناــ البشرة، (بالفرنسية)، منشورات دينود، باريس،1995، ص.57ــ58 ، فإنه ينبغي إعادة الاعتبار للجسد بوصفه دالا ثقافيا يتعدى العقلاني إلى مظاهر أخرى كاللباس و الوشم والحلي والغناء والرقص،والعري، بوصفها طبقات نصية تشتغل داخل متن الإنسان، فتنبجس منها بلاغات مثيرة ترقى إلى مستوى شعرية واستعارات متعارضةـــ الزهرة إبراهيم، الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافية: وجوه الجسد، دار النايا، دمشق،2009ــ(من خلال قراءة في الكتاب انجزها خليل صويلح تحت عنوان: كيف نقرأ الجسد أنثروبولوجيا؟ منشورة على النت.)، إنها علامات أو طبقات نصية تتيح للباحث النظر إلى الإنسان ككائن بيوثقافي، يصدر عنه فعل بيوثقافي، أي فعل مكيف ثقافيا، يؤرخ لرحلة الإنسان الحضارية، و عبوره من كائن الطبيعة إلى كائن الثقافة، وهو عبور صدامي وعسير، رغم خطاب/قناع التسامي، الذي يظل خطابا مراوغا، لأن الحاصل هو استمرار الصراع المحتدم بين مبدأ اللذة/الإيروس ومبدأ الواقع، وهو صراع يضطرم بين الجسد والفكر، بين الهوى والأخلاق على حد تعبير نيتشه بين الرغبة ومقاومة الرغبة بواسطة سلطات الدين والقانون، والعمل اليدوي، والإنتاج المادي، والإبداع الفني والجمالي والاحتفالي أيضا، ولذلك، فإن الإيروس يظل حاضرا بقوة داخل الاحتفالات المحفوفة بروح المقدس، إنه مغلف بتجليات شتى، لكنه في العمق يبقى الشريان النابض والمتدفق في الفعل الطقسي الذي يحرك الجسد المملوك في الفرجة الحمدوشية بقرية سيدي علي على جبل زرهون قرب مكناس، أو جسد الراقص المستتر داخل القناع الكرنفالي (بركاشو بواحة فجيج في لجنوب الشرقي للمغرب)، أو جسد الدمية الخارقة (دمية تاغنا بمنطقة الأطلس المتوسط) الذي يؤشر رمزيا لرغبة الإنسان في البقاء عبر طقوس استدرار الغيث واستشراف السقيا والخصوبة والنماء...إن الاحتفال يشكل بالنسبة للإنسان المغربي انزياحا عن المألوف وانفلاتا من الإشراطات التي يفرض مبدأ الواقع ترسيخها وهيمنتها على كيفية تدبير هذا الإنسان لأموره الحميمية والباطنية المنبجسة من جوهره الطبيعي. الاحتفال، إذن، طقس تفريغي يحدث في فضاء مقدس زمنيا ليحتفي بالإيروس، ينفس عنه، يحرره ويطلق لغاته الرمزية مخصبة بمحمولات أسطورية وجمالية تؤكد على الدوام بأن الظاهرة المسرحية الحقيقية هي تلك التي تتشكل من عناصر متنافرة، فثمة يكمن الصراع والحركة والجمال وسلاف المقدس المعتق بالمدنس.ـــ الزهرة إبراهيم، الإيروس والمقدس: دراسة أنثروبولوجية تحليلية، دار النايا، دمشق،2010ــ.
   وفق هذا المنظور، فإن الجسد المداحي عندما يترنح ويرقص، في حركة ممثلة بتلويح (تحييرة) الرأس وذبذبات الأكتاف، ورفع كف اليد والسبابة نحو السماء(حركة ممتدة من أسفل إلى أعلى)، يقوم بحركة سماوية ذات تحيين مصاحب لفعل الحكي أوالسرد والإنشاد والعزف. إن جسد المداح الراقص هنا هو جسد شارد وسارد إلى درجة الصفر في السميوطيقا على حد تعبير إفان ألمييديا. فالجسد هنا يهرب حيثما وجد ذاكرة كي يضيع.ـــ إفان ألميديا، جسد يصبح سردا، ضمن أعمال: الجسد وخيالاته، (بالفرنسية)، منشورات مينوي، باريس،1983،ص.8.ص.13 ــ  إنه جسد يحكي عبر، ومن خلال، ((الحضرة))، التي ما هي إلا لفظة مشتقة من الحضور في مقابل الغياب، ومن المرئي/ واللامرئي، ومن الواقعي مقابل التخييلي أو المتخيل.ـــ نور الدين الزاهي، البعد الرمزي للنص الطقوسي، الاتحاد الاشتراكي، عدد يوم 18/02/1995. فبواسطة الدوران والارتجاف، والسبابة التي تعلن الشهادة، يكون الجسد المداح الراقص، قد غادر الزمن الواقعي، وانخرط في الزمن القدسي. والملاحظ أيضا أن وجه الراقص أثناء الرقص يكون مغمض العينين.((إن جسد الحضرة جسد بدون عينين)) يقول نور الدين الزاهي، في حين أنه جسد يستعمل اليد المبسوطة والسبابة القائمة للتلويح، أو للكتابة، كتابة الشهادة وتخليدها في الفراغ. إنه استعمال لليد لخلق إيقاع منتظم داخل فضاء الحضرة/الحلقة أو الفرجة، استعمال لأداة رمزية تعرف امتلاء قدسيا. فاليد عضو حامي للجسد رمزيا، لأنها حامل ومجسد لإسم الله جل جلاله، وهي أيضا حاملة للعين الحامية من كل عين عائنة أو لائمة، والعكس أيضا. ــ أنظر رولان بارث، استعارة العين، الصادر سنة 1993،ص.195/196.
   هذا الترميز، يجد شرعيته داخل الثقافة العربية الإسلامية، حيث نجد الحظر أو النهي بالقرآن والسنة عن انتهاك المحرم/ الزنى. تقول الآية القرآنية:(( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور))، كما يقول الحديث:((إن العين تزني)) و(( الأولى ـ أي النظرة إلى الجسد ـ لك والثانية عليك)). ولذلك،فإن غياب النظرة بانغلاق العينين ضمن لحظة الحضرة، يعني أن الجسد المداحي الراقص جسد صوفي بدون قضيب، جسد مقدس. أوليست كلمة (الصوفية) في جذورها اللغوية اليونانية مشتقة من كلمة (مياين) بمعنى إغلاق العينين؟، وأنه (إذا أغمضت العين الجارحة، فعين القلب لا ترى سواه). وأن (الصوفي هو الذي لا يكون، فهو صاف لأنه خادم صفاء الصوفية)، كما يقول الشيخ الخاقاني ــ وهو أحد المداحين الإيرانيين ــ في إحدى شطحاته. ــ آنا ماري شيمل، مرجع سابق،ص.7 وص.22 و.ص.49. ولأن جسد المداح الراقص جسد صوفي بدون قضيب ، فهو يبدد عنف الجنسي ويهدره من خلال تبديده وهدره لثنائية الذكوري/ الأنثوي المميزة للجسد الدنيوي المدنس. وذلك استنادا إلى التعارض الحاصل بين المقدس والمدنس، أو بين المقدس والدنيوي أو العادي، على اعتبار أن المقدس يتجلى ويتمظهر ظهور شيء يغاير الشيء العادي مغايرة تامة. ــ ميرسيا إلياد، المقدس والعادي، ترجمة عادل العوا، ط.1، صحارى للصحافة والنشر، بودابست،1994ص.34. كما أن حركة الجسد المداح الراقص، كحركة موزعة بين الانتصاب والانحناء، هي حركة اختراق تتخذ طابعها الرمزي داخل فعل الانتصاب، بوصفها فعل رغبة في الانتصاب. إنها حركة انتهاك بلغة جورج باطاي. وبما أن الجسد المداح الراقص، هو جسد بدون قضيب، فإن حركة الاغتصاب، من منظور الباحث نور الدين الزاهي، تصبح رمزية استبدالية لفعل الانتصاب الأصلي. و ما يضفي على هذه الرغبة في الاغتصاب قدسيتها، هو كونها ترفق بحركة الانحناء أو السجود، وحركة الكف المبسوطة والسبابة المتشهدة، وكلها حركات تشكل نوعا من الصلاة الرمزية، التي تضفي على الرقص شرعيته الدينية والاجتماعية. إن حركة الجسد المداح الراقص، تحول الذكورية إلى أنثى، لأن الراقص يبدد عنفه خارج حقل الإنتاجية/ الإنجاب. و لذلك، نلاحظ أنه داخل فضاء الفرجة الغنائية لفرقة مداحة، سواء في حلقات المواسم أو الأسواق أو في حفلات الزفاف والختان..، لا تحضر معايير أو مجالات الذكورة والأنوثة كحواجز أو موانع اجتماعية..ولعل هذا ما جعل الباحث الأنثروبولوجي روجي كايوا يصنف هذا النوع من الطقوس ضمن مقدس الانتهاك، وليس مقدس الاحترام الذي ينبني على حفظ التراتبيات الاجتماعية، والتمايزات الثقافية، وإعادة إنتاجها وتحيينها.ــ روجي كايوا، الإنسان والمقدس، مرجع سابق،ص.35.ــ. وبعبارة أخرى، فإن الجسد المداح الراقص يفتح ثغرة في النسق الأمني الأنطلوجي الذي يضمنه النظام الرمزي المتداول، كما لاحظ ذلك الباحث دافيد لوبرتون: انثروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة: محد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية، بيروت،1993،ص.136. على اعتبار أنه جسد يدفع بهذا النظام الرمزي المتداول إلى منطقة تضطرب فيها العلاقة المألوفة بين الأسماء ومسمياتها، بين الشخوص والأدوار المنوطة بها، وبين الأشياء والكلمات أو الحركات المعينة لها. وقد يكون من الضروري هنا التوقف عند مقولة: ((العين مرآة الروح))، فالعين علامة مميزة للمعرفة الجسدية ، وقد تكون العيون نصف المغلقة، أي المنحرفة صوب الداخل، معبرة عن النشوة والصفاء، ــ فيليب سيرنج، الرموز في الفن، الأديان، الحياة، ترجمة: عبد الهادي عباس، دار دمشق، ط1،1992،ص.264 و269. ولعل ذلك، هو جمال الحياة الداخلية التي هي أكثر أهمية بالنسبة للشيوخ الموسيقيين والغنائيين لفرقة مداحة. أما اليد اليمنى الملوحة، فوق الرأس، إلى السماء، من خلال السبابة، فيمكن النظر إليها، من منظور فيربروخ، كعلامة ذكورية بدلا عن القضيب، الغائب من خلال إغماض العينين، أو هي اليد الواقية ضد التأثيرات الشريرة، أو هي يد السلام الكوكبي أو الكوني، ولكن قبل ذلك كله، قد تكون علامة عبادة وإجلال عند المؤمنين..فالأصابع المتجهة صوب الأعلى من أجل طلب الله، ولما لا علامة ترمز للقوة الإلهية؟ فاليد، هي القوة في اللغة العربية، وقد فسر المفسرون الآية القرآنية الكريمة: (( يد الله فوق أيديهم)) بهذا المعنى. وعلى كل حال، فلا يجب أن ننسى أن الإنسان قد عبر عن نفسه بيديه قبل أن يكتشف لغته.ــ فيليب سيرنج، مرجع سابق،ص.271، 272، 273 ــ. بيد أن لليد اليمنى دلالة مميزة في الثقافة العربية الإسلامية، فهي تتصل بالدقة والنشاطات الشريفة والخيرة وحتى المقدسة، أما اليد اليسرى، فتنفذ بشكل سيء، بل إنها يد تدليسية أو شريرة، يد ساحرة أو شيطانية..فالملاحظ أن كلمة أعسر في اللغة العربية تطلق على من يستعمل يده اليسرى بدل اليمنى، وهي كلمة مشتقة من العسر المناقضة لليسر..وقد ميز القرآن الكريم ما بين أصحاب الميمنة وهو المؤمنون أصحاب الجنة، وأصحاب المشأمة، وهو الكافرون أصحاب النار. وقوله في الحديث: إنه كان يحب التيمن في جميع أمره ما استطاع التيمن، معناه: الابتداء في الأفعال باليد اليمنى والرجل اليمنى والجانب الأيمن، كما في الوضء للصلاة مثلا. وفي الحديث أيضا: الحجر الأسود يمين الله في الأرض. واليمين القوة والقدرة.  وعموما يتضح أن الجانب المقدس يكون هو اليمين، والجانب الدنيوي أو المدنس هو الأيسر، كما لاحظ ذلك روبرت هيرتز. وحتى وإن كانت اليد اليسرى/ الدنيوية متفوقة على اليمنى/ المقدسة في فن عزف الكمان أو الضرب على الإيقاع، فإن دورها الحقيقي كمنفذة لتقنية فحسب، في حين أن دور اليد اليمنى تجاه اليسرى يجب أن تعتبر كالروح تجاه الجسد، وتلك هي عبارة لوسيان كاربيت الخاصة.ـــ فيليب سيرنج، مرجع سابق، ص.275ـ276ـ277.
فبالسبابة يكتب الجسد ألف الشهادة والتوحيد، ذلك أن (( الألف يشار به إلى الذات الأحدية، أي الحق من حيث هو أول الأشياء في أزل الآزال)) كما يقول أحد شيوخ الصوفية ــ عبد الرزاق الكاشاني، معجم اصطلاحات الصوفية،ص.49 ــ. فالشيخ الراقص، المنحشر في جذبته لا يرى إلا الله ولاشيء سواه، إنه مثله كمثل صوفي عربي يسمى محمد بن واسع، كان يقول: (( لم أنظر إلى شيء لم أر الله فيه))، وهي مقولة تشير إلى حال متقدم من التأمل لا يرى فيه الصوفي إلا الفاعل الحقيقي (الله)، ولا يمكن الوصول إلى تلك الرؤية إلا من خلال الإيمان التام، والذي جعل الصوفي الشبلي يصرخ قائلا: (( ما رأيت شيئا غير لله))ــ الهجويري، كشف المحجوب، ص.91 وص.330 ــ. ولعل هذه المقولات الصوفية تجد لها سندا في الآية القرآنية 109 من سورة البقرة (( أينما تولوا وجوهكم فتم وجه الله). وقد أرجع الجنيد معنى التوحيد إلى الميثاق الأول بقوله: (( التوحيد أن يكون العبد شبحا بين يدي الله، تجري عليه تصاريف تدبيره، في مجاري أحكام قدرته، في لجج بحار توحيده، بالفناء عن نفسه وعن دعوة الخلق له، وعن استجابته بحقائق وجود وحدانيته في حقيقة قربه بذهاب حسه وحركته، لقيام الحق له فيما أراد منه، وهو أن يرجع آخر العبد إلى أوله، فيكون كما كان من قبل أن يكون.)) ـــ الهجويري، كشف المحجوب، ص.282ــ283 .ومن جهته، يصف لنا الإمام الغزالي الطريقة الملتزمة للوصول إلى التوحيد قائلا:(( من نظر إلى العالم من حيث إنه فعل الله، وعرفه من حيث إنه فعل لله، وأحبه من حيث إنه فعل لله، لم يكن ناظرا إلا في الله، ولا عارفا إلا بالله ولا محبا إلا له، وكان هو الموحد الحق، الذي لا يرى إلا الله، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث هو نفسه، بل من حيث إنه عبد الله، فهذا الذي يقال فيه أنه فني في التوحيد، وأنه فني عن نفسه.))ــ الغزالي، إحياء علوم الدين، الجزء الرابع، باب المحبة،ص.276. وقد جاء في متن الصلاة المشيشية التي تركها الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش، وهي عبارة عن دعاء يبدأ بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قوله: ((وزج بي في بحار الأحدية))، أي أدخلني في توحيد الأحدية الشبيه بالبحر، وهو الفناء عن سوى الذات العليا، فلا يشهد سواها في ظاهره وباطنه، ويقال لصاحبها: هو في مقام الفناء، وفي عين الجمع، المعبر عنه بتجريد التوحيد. (وانشلني): أي خلصني سريعا. (من أوحال التوحيد) أي من مخاوفه. وإنما قال ذلك عقب قوله: وزج بي...لأن صاحب الفناء إن لم تدركه العناية أنكر ثبوت الآثار، ومنها الرسل وما جاؤوا به. والعالم برمته. ومعنى تخليصه من تلك الأوحال نقله إلى مقام البقاء، فلذلك قال: (وأغرقني) ي واجعلني مستغرقا. (في عين) ذات. (الوحدة) وهو شهود الذات متصفة بالصفات، ويسمى صاحبه في مقام البقاء، وفي مقام جمع الجمع، فيستدل على الصنعة بالصانع، لكونه لا يشهد إلا الله وصفاته، والصنعة آثار، فلذلك قال: (حتى لا أرى ولا اسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها) فيكون جامعا بين مقام الفناء ومقام البقاء، كمن أحيي بعد الموت، وقال العارف بالله سيدي محمد بن وفا رضي الله عنه: وبعد الفنا في الله كن كيفما تشا/ فعلمك لا جهل وفعلك لا وزر.. تنبيه: قد علم مما تقدم من قوله: (واحملني على سبيله) إلى هنا ثلاثة مقامات: مقام المحجوبين، السائرين إلى الله، المستدلين بالصنعة على الصانع، أفاده بقوله: (واحملني على سبيله إلى حضرتك...). ومقام أهل الفناء المحض الذين غرقوا في توحيد الأحدية، فلم يشهدوا سوى ذات الله تعالى، وقد أفاده بقوله: (وزج بي في بحار الأحدية). ولما كان مقام سكر، وخروج عن طور البشرية، وعن حد التكليف، قال: (وانشلني...) ومقام أهل البقاء بعد الفناء، وهم الذين يشاهدون الصنعة بوجود الصانع، لكونهم شهدوا قبل كل شيء ذات مولاهم، وصفاته وأسماءه وقد أفاده بقوله: (وأغرقني في عين بحر الوحدة...) وهذا معنى الحديث: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)، فأشار في الحديث إلى مقام السائرين بقوله: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل، وإلى مقام الفناء المحض بقوله: حتى أحبه، وإلى مقام البقاء بقوله: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، معناه كنت مشهوده قبل سمعه ومسمعه، وبصره ومبصره، ويده وبطشها، ورجله ومشيها، لكونه يشهدني قبل كل شيء، وهذه آثاري لا ترى له إلا بعد شهودي، وهو معنى قول بعض العارفين عن الحضرة العلية: تلك آثارنا تدل علينا/ فانظروا بعدنا إلى الآثار. فقوله (تلك آثارنا) أمرنا بالسير لمن يستدل بالصنعة على الصانع، وقوله: (فانظروا بعدنا) أي بعد الفناء فينا بسيركم إلينا (إلى الآثار) أي فاشهدوا آثارنا بعد شهودنا، وهذا مقام البقاء...وهذا المعنى هو الذي قال فيه سيدي عبد الغني النابلسي: كل شيء عقد جوهر/ حلية الحسن المهيب. ــ شرح الصلاة المشيشية لسيدي الشيخ أحمد بن محمد الصاوي رحمه الله، موقع الطريقة الشاذلية الدرقاوية على النت. ــ  ومهما تعددت الشروحات والتفسيرات، فمن المستحيل شرح حالات التوحيد ساعة الجذب أو الشطح، إلى درجة جعلت السراج في الصفحة31 من كتابه (اللمع) يقول بأن التعريفات المتعددة للتوحيد تستعصي عن الشرح ولا تعكس إلا بصيصا من الحقيقة، (( فإذا صارت إلى الشرح، تخفى ويذهب رونقها)) ــ آنا شيمل، الأبعاد الصوفية في الإسلام، تاريخ التصوف، ترجمة: محمد إسماعيل السيد وحامد قطب، منشورات الجمل،ط1، كولونيا/ ألمانيا وبغداد،2006،ص.168،169و170 ــ.  إنها حركة الجسد المغني والراقص، الجسد المتعامد، الشاهد والموحد، الجسد الضامر والصابر، المكابر والمجاهد. يقول الشيخ إدريس برهان: (هاذي هي العادة عندنا.. كاتبدى بساكن غنيمي عبدي، حضاري عيساوي، كاين يكون فيها مقدم الرمى..وكان نهز فيها اليد هاكا وأنا كا نشهد..وكا نعلم الرمى باش يختمو، بعدما كا نكون غبت ومشيت معاهم في الماية..). وينطبق على هذه الحالة من الرقص والوجد والجذب، ما قاله أحد الصوفية:(( الأبدان بين أهل الدنيا تسعى، والقلوب في رياض الملكوت ترعى)). ــ ابن الزيات التادلي، التشوف إلى رجال التصوف، ص.40.ــ فإذا كان الجسد مكونا راسخا من مكونات البحث الاجتماعي والثقافي، وجزءا دائم الحضور في المجتمع والثقافة، بدرجة تزيد أو تقل، فإنه ينطوي أيضا على بؤر كثيرة من المحرمات والتحيزات والأحكام. وتتقرر مكانتنا في المجتمع بالكيفية التي نحرك بها أجسادنا، ونكسوها ونصونها، ونهذبها ونتفاعل بها.ــ الأجساد الثقافية الإثنوغرافيا والنظرية، تحرير: هيلين توماس وجميلة أحمد. ترجمة: أسامة الغزولي، المركز القومي للترجمة، العدد1595، ط1.القاهرة،2010،ص.23. الجسد ظاهرة بيولوجية واجتماعية وثقافية في نفس الوقت، وبالتالي ينبغي دراسته بتجاوز المقاربات الطبائعية التي لا ترى في الجسد إلا أبعاده البيولوجية فقط، بل بالتركيز على مقاربات تعنى بالإحساس بالجسد كجزء مكون للفاعلية البشرية، وبأهمية الجسدية البشرية لتشكيل الأنظمة الاجتماعية والثقافية..مقاربات تعنى بالجسد المهان، الجسد المدنس والمقموع، الجسد الذي لا يعترف بكرامته وقدسيته إلا حين تلفظ روحه أنفاسها. ــ كرس شلنج، الجسد والنظرية الاجتماعية، ترجمة منى البحر ـ نجيب الحصادي، دار العين للنشر،ط1، الإسكندرية،2009 ص.13ــ . يزاوج الجسد في وظيفته بين العملي والثقافي، ونقصد بالعملي هنا، الناحية الفزيولوجية والبيولوجية، أي الحركة العملية الطبيعية، أما الثقافي، فهو تنقل الجسد في الفضاء عبر سلسلة من الوحدات الإيمائية التي تخلق سلسلة من الانزياحات عن المعايير المحددة للفعل الحركي العملي، فتكون كل حركة إنجاز لمشروع ثقافي (الإنسان مشروع على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي الوجودي جون بول سارتر)، ويكون الجسد في هذه الحالة شبيها بالوحدات المعجمية لا يملك معنى، بل إنه يعيش على وقع الاستعمالات الاجتماعية والثقافية، الأمر الذي يجعل من إيماءة واحدة منبعا لسلسلة كبيرة من التأويلات. ــــ سعيد بنكراد، السيميائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط2، سوريا،2005،ص.195 ــــ وبالتالي، فإن أية حركة جسدية معزولة أز مندمجة في الأداءات الغنائية والموسيقية الشعبية، قد تولد نصوصا منفتحة على سلسلة من الإيماءات الدالة على ممارسات معينة، وفق مقتضيات السياق السوسيوتاريخي والثقافي للغناء والموسيقى وللتلقي أيضا..وهنا تغدو الإشارة أو الحركة الجسدية علامة مائزة تسمح للمتلقي بالتجول في مخزونه الثقافي، وفق شحنات الخطاب لتفجر مكامن ذاكرته..إنها تمنحه إمكانيات هائلة في الاستجابة السريعة للفهم وتدفعه لتشغيل ذاكرته بقوة لاستحضار الصور وتجاوز حدود اللغة المنطوقة التي تستهلك الزمن الحاضر. ـــ محمد عيلان، من سيميلوجيا الاتصال،ص.254. أوردته ذ. جنات زراد، في خطاب الجسد...ص.6ـــ كما أن التجارب الموسيقية متجذرة في التجربة الجسدية الأكثر بدائية..فالموسيقى هنا شيء جسدي، فهي تسلب اللب وتجعلنا نحلق، نرقص وندور، فهي تحرك وتؤثر: إنها دون الكلمات أكثر من كونها أبعد من الكلمات، في حركات الجسد وإيماءاته وفي الإيقاعات والجموح والخمود والتوتر والاسترخاء. إن أكثر الفنون صوفية وأكثرها روحانية هي لربما، ببساطة، أكثرها جسدية. بيير بورديو، مسائل في علم الاجتماع، ترجمة: د. هناء صبحي،هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، ط1، أبو ظبي،2012،ص.252ـ253،255.  ومن منظور آخر، فإن جسد المداح، الجوال، الراقص، هو، بشكل من الأشكال، جسد متمرد على وظائفه البيولوجية اليومية الرتيبة والمتكررة (الأكل، الشرب، النوم، العمل، الجماع، الاستقرار، أو الثبات في المكان والزمان..) من خلال قدرته على إبراز قدرات أو وظائف أخرى للجسد ، هي قدراته على الغناء والحركة والأداء، والتوقيع والانتقال والتجوال، والقلب والتنكر ( رقص رجالي معاكس للرقص النسائي)..قدرات عديدة من خلالها يتمرد الجسد على المألوف والعادي والممل في الحياة اليومية، حيث يرى النفساني سيجموند فرويد أن العيد أو الموسم أو الطقس الاحتفالي، هو مبالغة مسموح بها أو مأمور بها وهو خرق علني للممنوع، مثلما يرى الباحث السلالي كلود ليفي شتراوس أن الأعياد أو الاحتفالات العامة، هي رغبة في الفوضى ومعاكسة النظام الاجتماعي الرتيب، فيما يقر الفيلسوف فريديريك نيتشه، في مؤلفه أصل التراجيديا، بوجود نظام موال لوجود الخرق المحقق خلال النشوة المقدسة. ــ الحسين مرصان، العادات الاجتماعية، الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي، عدد370، أكتوبر1991 ــ. ويورد الباحث الأنثروبولوجي كرس شانج، في مؤلفه، قصيدة للشاعر إدوارد جوليانو تلخص مقاربته للجسد وتبين تعددية الظاهرة الجسدية: تقول الكنسية: الجسد خطيئة، يقول العلم: الجسد آلة، تقول الإعلانات: الجسد مشروع تجاري، يقول الجسد: أنا مهرجان.ــ كرس شنلج،مرجع سابق،ص.14. ولذلك، غالبا ما تنضاف إلى العيط أو الغناء، والإيقاع والعزف والأداء ((الأذن والركزة، لأن وعاء الاستيعاب والقراءة الأولى هي الأذن، ولأن الجسد إذا ما شمخ وتحركت دواخله، ترجم ذلك بركزة هي في منتهى الانتشاء.)) كما قال يوما الباحث والشيخ المرحوم محمد بوحميد، في أحد حواراته المثيرة بجريدة الاتحاد الاشتراكي ــ. ولقد أتاح لنا مختبر الإنصات أوالاستماع أوجلسة الإمتاع والمؤانسة مع شيوخ مداحة أن نلاحظ كيف أن الجسد المداحي، وهو يروي، قياما وقعودا، قصيدة (النجمة) على لسان الشيخ الميلودي العلمي، وقصيدة (العشيقة) على لسان الشيخ إدريس برهان، كبف أن جسد الشيخ الراوي يؤدي محفلا توسطيا بين الإحساسين الخارجي والداخلي،( بين حالة الشيء وحالة النفس)، ويضمن تفاعل الإنسان الراوي والمتلقي مع محيطه، ويجسد حركيا مجموع الأهواء والمواقف والمشاعر والعواطف التي تنتاب الإنسان أكانت مفرحة أم محزنة..بحيث يظهر الجسد المداح، وهو يشخص بآثاره التلفظية والحركية ما تجسده التجليات الثقافية وإيحاءاتها على المستوى الفردي والجماعي، أنه جسد حاس، مدرك وفاعل، جسد يعبئ كل الأدوار المتفرقة للذات، في تصلب وقفزة ونقل، في قبض وانبساط وانشراح، جسد باعتباره سدا وتوقفا يقود إلى تجسيد مؤلم أو سعيد للذات. ــ ألجرداس ج. غريماس وجاك فونتاني، سيميائية الأهواء: من حالات الشيء إلى حالات الروح،(باللغة الفرنسية)، منشورات سواي، باريس، 1991،ص.368. أورده: د.محمد الداهي، تقديم كتاب سيميائيات الأهواء، موقع لناقد المغربي محمد الداهي على النت،ص.1ـ5ــ. يتم ذلك الحكي الشفهي الشعبي، الغنائي والصوفي، عبر الدور الفعال الذي لعبه الشيخ الراوي في فهم وإيصال معاني الحكاية/القصيدة للمستمع، بخلق جو أسطوري أو صوفي ينطلق من الواقع المدرك والمحسوس ليحلق بعيدا في عالم الخيال المطلق، ويجعل المستمع يندمج في متخيل الحكاية ويتابع أحداثها بشغف واهتمام شديدين. ــ جنات زراد، خطاب الجسد، مرجع سابق،ص.7ــ يستعمل الشيخ المداح نبراته الصوتية،فيرفع أو يخفض، ويفخم أو يرقق صوته، حسب حاجته لذلك، ووفق الطريقة التي تتحدث بها شخصيات الحكاية/القصيدة، وفي ذلك كله، يستند الراوي على جسده بحركاته وإشاراته، فنراه يحرك رأسه ويديه، وعينيه ورجليه، ويتلمظ بشفاهه عند نطقه ببعض الكلمات، كما يستعين بأشياء وآلات من محيطه الذي يجلس فيه (أدواته الموسيقية)، كل ذلك من أجل أن يحقق مقاصده الدلالية والرمزية ف((هو يتكلم ويتحرك، ويحرك جسده وأعضاءه وأشياءه، من أجل التشبيه، والمقارنة، والتفسير، وتعليل مواقف نصه للمتلقي، فالراوي يفتح نصه على الخارج وللخارج، كما يصنع من الخارج ذاته جزءا من النص.))ــ محمد سعيدي، نص الاستهلال في الحكاية الشعبية، مجلة بحوث سميائية، العدد1، دار الغرب للنشر والتوزيع، تلمسان،2002،ص.148.ــ
وبعد أن سكن العزف وسكت الغناء مع فرقة مداحة..، كان الختام على لسان شيخ الرمى والغنا، الفقيه الحافظ، سيدي الميلودي العلمي، برفع أكف الدعاء الصالح، والصلاة على النبي المصطفى على طريقة الزاوية التيجانية، والمعروفة ب (صلاة الفاتح لما أغلق...). هذه الصلاة الصوفية التي كان أول من أدخلها إلى المغرب هو الشيخ محمد بن أبي بكر الدلائي حين اتصل، بمناسبة حجه، بالشيخ محمد البكري شيخ الطريقة بمصر، فاخذ عنه طريقته، وروى عنه (صلاة الفاتح لما أغلق) ثم جعل يلقنها لمريديه في الزاوية الدلائية بدلا من الصيغة التي تركها أبوه. وما تزال هذه الصلاة مستعملة لدى التيجانيين في وردهم حتى يومنا هذا.ـــ محمد حجي، الزاوية الدلائية، الرباط،1964،ص.53 ـــ.
  بعد قراءة الفاتحة والصلاة والسلام على النبي المختار، غادرنا قرية مداحة بعد زوال النهار، بعد أن ألقينا نظرة عامة على زاويتها، وودعنا بحرارة وحميمية أهلها الطيبين الطيبين..الذين لا يملكون إلا الصبر ومحبة الناس والحياة، والرجاء في العلي القادر، هؤلاء الناس البسطاء الكرماء، الحاملين في قلوبهم وذاكراتهم لهذا الكنز التراثي الفني الشعبي المدفون والمكنون. ترى من ينفض الغبار عن هذا التراث اللامادي الشاوي، الشفاهي الغنائي، الفرجوي الشعبي، ليخرجه من قوقعته الجغرافية وعزلته الاجتماعية، و يقذف به في أتون الرواج أو الاستهلاك الإعلامي والفني الواسع، الجهوي والوطني، ولما العالمي، كما فعل فنانون وباحثون آخرون بفن قرية جهجوكة بالشمال المغربي؟ ففي ذلك إغناء لهذا الفضاء الفني الفسيفسائي، المتعدد والمركب ببلاد المغرب.
دراسة إثنوغرافية موسيقية حول أهازيج مداحة الشاوية
من إنجاز الباحث:  التــهامي حبـــشي
ربيع 2016 

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية