عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

سواكن " لملوك " وقصايد الصوفية في غناء مداحة (الحلقة السادسة)

سواكن " لملوك " وقصايد الصوفية في غناء مداحة (الحلقة السادسة)


الحلقة السادسة: سواكن (لملوك) وقصايد الصوفية في غناء مداحة:
    بعد ذلك تدخل فرقة مداحة في أداء ما يسمونه ب (سواكن لملوك)، في شكل براويل عيطية مهزوزة الأنغام والإيقاعات...تمليها طلبات بعض المتفرجين والمتفرجات الممسوسين بالجان كما في معتقدات الكثير من المغاربة. ومن هذه السواكن الصاعدة: الباشا حمو، شمهاروش، سيدي ميمون، مليكة بنت الملوك،لالة ميرة..). يقول الشيخ إدريس برهان: (( كاين اللي حالو رباني، وكاين اللي حالو جني..خاصو الطيوح ديالو..ميرة، ولا مليكة، ولا ميمون، ولا الباشا حمو..وخاصنا نخدمو ليه السواكن ديالو حتى يفيق من حالو.. )). والحقيقة أن التقديس كان ولا يزال واسع الانتشار في الطبيعة، وعلى الرغم من الغلبة التي تحققت للإسلام، كدين سماوي مجرد، فلا يزال هناك اعتقاد إلى اليوم بأن عددا كبيرا من الجن يسكنون الصخور، والكهوف أو المغارات، والجبال، والأشجار، والعيون والينابيع، بل ويسكنون حتى الأجسام الآدمية نفسها. ومع أن الإسلام لا ينكر وجود الجن أو (الجنون)، فإنه لم يتمكن من القضاء على الكثير من الممارسات المشوبة بالسحر الجبري والتقديس، والدائرة حول هؤلاء الجن، فهي ممارسات موغلة في القدم...بحيث نجد ثقوبا وتجاويف في الصخور والمغارات تتحول إلى معابد بسيطة (مزارات أو حويطات) يضع فيها الزوار بعض القرابين والنذور الفخارية والقناديل والشموع، بل الحلاوي والقلال، لأن تلك الثقوب، في اعتقادهم ـ يتردد عليها بعض الجان أو الحراس الذين يستحسن إكرامهم أو ينبغي اتقاء شرورهم. ــ غابرييل كامب، البربر ذاكرة وهوية، ترجمة: عبد الرحيم حزل، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2014، ص.242 و246. وحسب إدوارد ويسترمارك، فإن من أهم  بقايا المعتقدات الوثنية عند المغاربة، الاعتقاد في الجن والعين الشريرة واللعنة والعار..، فالاعتقاد في الجن ممارسة وثنية لا زالت موجودة في المغرب، وهي منحدرة من الشرق العربي، ومن شمال إفريقيا القرطاجي، كعادة التضحية بالطيور لإرضاء الجن، التي تعود إلى ديانة القرطاجيين. إن ثقافة الامتلاك الجني المارابوتية لا زالت على قيد الحياة، وتعمل بشكل فعال، بفعل انتعاش الموسيقى الشعبية العلاجية ذات العوالم الروحية المرابوتية والإيقاعات الموسيقية التي تتخللها رقصات الجذبة والحضرة، وعمليات الصرع وطرد الجن، ويمكن من خلالها تسليط الضوء على ما يشعر به الأعضاء الاجتماعيين الرابضين في اسفل الهرم الاجتماعي تجاه نظامهم السياسي والاقتصادي، وكذلك على كيفية مقاومتهم للهيمنة السياسية والاقتصادية، إذ يبدو أنه في عمق هذا المنطق الثقافي، يتم توظيف طقوس الامتلاك والحضرة، بوصفهما شكلا من أشكال المقاومة الثقافية ضد الهيمنة. ــ د. محمد معروف (أستاذ بجامعة شعيب الدكالي الجديدة) ،ود. بول ويليس (أستاذ بجامعة بكين بالصين)، امتلاك الجن للإنس كشكل للمقاومة الثقافية بالمغرب، ترجمة:د. محمد معروف، مقالة منشورة بهبة بريس على النت، 16 أبريل 2015 ــ. ولأن الاعتقاد بالجن وبسكن الجن في جسد الإنسان، اعتقاد لا زال قائما عند العديد من المغاربة، فإن فرقة مداحة، ونزولا عند طلبات عائلات بعض الأشخاص الممسوسين بالجن من جمهور المتفرجين، سواء في حلقات المواسم أو جلسات الحفلات والأعراس، سرعان ما تجد نفسها منخرطة في أداء سواكن الملوك، وهي أنغام بالناي أو الغيطة وإيقاعات كناوية، حضارية مهزوزة، قوية وحارة، تؤدى لتسكين الحال، والعون على نهوض الجسد الممسوس واستعادته لتوازنه وهدوءه النفسي..إنها ليست مجرد موسيقى وإيقاعات عادية، بل هي موسيقى ذات إيقاعات قوية، محملة بثقل الأساطير والمعتقدات الموغلة في القدم، ومشحونة بالإرث الثقافي الشعبي الإفريقي والبربري والعربي الإسلامي..موسيقى تناجي الأرواح الشريرة الساكنة في الجسد الممسوس أو المسكون، وتتوسل بالإيقاعات والطيوح والألوان والبخور، وكل الوسائط الخفية الأخرى، كي تعالج الأجساد الممسوسة بالجان، موسيقى شبيهة بليلة (الدردبة) الكناوية في طقوس فرق كناوة المغربية، وشبيهة بحفلات الزار في مصر، وبعض الاحتفالات الطقوسية لدى قبائل الفودو في البرازيل وجزر الأنتيل بأمريكا اللاتينية. و(للا ميرة) في معتقد العامة هي جنية من الملوك تصيب النساء، وخاصة منهن الجميلات والمتزوجات حديثا، بلوثة الغيرة والحسد، ويغيظها جمالهن، ولذلك فإن المرأة الجميلة التي لا تشعر بنفسها على ما يرام، تعتقد أن بها أذى أو مسا من (للا ميرة) التي تعشق اللون الأصفر وبخورا وقرابين خاصة. وهنا يكون الجسد على حد تعبير مرلوبونتي هو ((موطن ظهور للتعبير، كما أن كل استعمال للجسد هو تعبير أصلي وأولي، وهذا التعبير هو الذي يجعل الذات تخرج من ذاتها وتتصل بالذوات الأخرى عن طريق العلامات والرموز)) ــ  مرلوبونتي، فينومينولوجيا الإدراك،(بالفرنسية) غاليمار، باريس،1945،ص.28 ــ . ونستحضر هنا مثالا آخر من عالم الجن، من خلال ساكن (الباشا حمو/الشارب دمو)، الذي يؤدى خصيصا للمسكونين بجني (الباشا حمو)، وهو جني لا يقهر يتردد على أماكن المذابح والمسالخ (نحيرات)، وهو جزار قوي وفظ يحب الدم، ولجثة (الخشبة) التي يسنها تحب رقصة الحضرة، وممارسة ضرب الأطراف وجلدها وشقها وتجريحها حتى يسيل الدم، وبالنسبة للنساء الممسوسات به، فإنه يتسبب لهن في نزيف حاد. وكل هذه السمات والخصائص تساعد على الإسقاط الجماعي اللاواعي للباشا الحقيقي ـ كلقب تشريفي إداري مغربي ــ تلك الشخصية المخزنية القمعية التي ملأت الدنيا وشغلت قلوب الناس بالرعب وممارسة العنف المادي والرمزي. ففي الأساطير المغربية يعكس عالم الجن العالم الاجتماعي، فالجني الباشا حمو ما هو إلا بناء أسطوري خيالي للباشا التاريخي الحقيقي. ففي الواقع، هناك إثنان من القواد التاريخيين الحقيقيين الذين مارسوا القمع، وكلست اسماؤهم السجلات التاريخية المغربية: هناك الباشا حمو بن العباس (1875ــ1975) الذي حكم منطقة دكالة بقبضة من حديد خلال الحقبة الاستعمارية، ولا زالت الذاكرة الشعبية في دكالة تحتفظ بروايات شتى حول أحكامه الصارمة، لكن المنصفة أحيانا (قفطانو كبريتي/ وحكامو فيريتي). وهناك الباشا حمو الذي مات عام 1900م، دفين مقبرة سيدي وسيدي بتارودانت، والذي اشتهر بقطع الرؤوس إلى درجة أن الروايات التاريخية تتحدث عن عدد الرؤوس المبتورة والمعلقة في الساحات العامة والتي تفوق عدد شرفات أسوار المدينة. ــ د. محمد معروف، ود. بول ويليس، مرجع سابق. ــ ولأن((الإنسان الأسود إنسان حي متفتح الحواس، فهو لا يقبل الوساطة بين الذات والموضوع، لكنه يقبل كل شيء أنغاما وروائح وإيقاعات وأشكالا وألوانا، إنه يحس الأشياء أكثر ما يراها.))، ــ  عبد العليم عبد الرحمان خضر، التراث الثقافي للأجناس البشرية في إفريقيا بين الأصالة والتجديد، ص.16.ـــ . فهناك عدة علاقات مشتركة وعلامات متبادلة بين الجسد الطقوسي والجسد القرباني من بينها: الحناء، الموسيقى، الدائرة، والدم..يتبين من خلالها أن الجسد الطقوسي الممسوس و الراقص يتأسس على مجموعة من الاستبدالات المؤسسة للجسد القرباني ويحضر كاستبدال له أو كوجه مجازي ــ أنظر في هذا الصدد: نور الدين الزاهي، المقدس الإسلامي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2006، الفصل الثاني من الكتاب. يعتبر السلطان الأسود (السلطان الكحل) شخصية أسطورية سكنت المخيلة الشعبية المغربية لعدة قرون، فهي رمز للحاكم الذي يمارس الإرهاب والقمع في المخيال الشعبي، وهو لا يقهر لا في الواقع ولا في الخيال، ولذلك يلاحظ أن المرضى الذين يزعمون أنهم تحت سيطرة الأسود (الكحل) لا يسعون إلى طرد الجني، ولكن يعمدون إلى مجرد تهدئته، عبر طقوس رقصات الجذبة وذبح القرابين، لعقد تسوية سلمية مع أوامره وإبرام عقدة هدنة إلى حين. ولقد كان السلطان الأسود/ الكحل تاريخيا كنية أطلقها العوام على أبي الحسن المريني أو مولاي إسماعيل، ربما بسبب سواد لون بشرتهما، وقد اشتهر المولى إسماعيل بقسوته التعسفية القمعية العنيفة، وقطع الرؤوس الأدمية في الأماكن العامة بهدف إرهاب الناس وملء قلوبهم بالرعب والفزع. ووفقا لتراجم الأولياء وسيرهم، لا يمكن لأية سلطة أن تقف ضد جبروته سوى بركة الأولياء، ولا يجب أن ننسى أن الحاج التهامي الكلاوي الذي شغل منصب قائد بمنطقة الحوز لقب هو الآخر بالسلطان الكحل.ـــ د. محمد معروف ود. بول ويليس، مرجع سابق ــ  ويحيل اللون الأسود أيضا على طائفة كناوة بالمغرب، التي تنحدر من سلالة الزنوج/العبيد الذين تم استيرادهم خلال العصر الذهبي للإمبراطورية المغربية (نهاية القرن 16م) من السودان الغربية، والتي كانت تسمى آنذاك السودان الغربي (دولة غينيا ومالي الحالية). ولقد حمل العبيد الأفارقة بشمال المغرب والجزائر معتقداتهم الوثنية في آلهتهم وفي الأرواح البدائية، التي لم تلبث أن امتزجت بغيرها من المعتقدات البربرية والعربية في الجان، ولدفع كل شبهة قد تحوم بمعتقداتهم وتحسبهم خارج الملة، انتسب (كناوة) روحيا إلى واحد منهم، هو (سيدي بلال) الذي كان زنجيا مثلهم. ويعتبر ضريح سيدي بلال، الموجود غرب مدينة الصويرة، المرجع الأعلى ومقام الأب الروحي لكناوة، وداخل ضريح هذا الولي، الذي يحسب في عداد الأولياء أو الصلحاء مجهولي النسب والسيرة بالمغرب، توجد الزاوية التي تحتضن، في العشرين من شهر شعبان، الموسم السنوي لطائفة (كناوة)، وسط طقوس غريبة، يتخللها الرقص الجماعي الهائج والمحموم، لزمرة الأتباع القادمين من كل مكان، من داخل وخارج المغرب. وقد كان الميناء البحري لمدينة الصويرة، منذ القرن السابع عشر الميلادي، مركزا تجاريا مهما على ساحل المحيط الأطلسي، ونقطة تبادل تجاري مع تمبكوتو، عاصمة السودان المسلمة، ومنها كان العبيد يفدون مع الذهب إلى المغرب. ولا ينبغي أن ننسى أنه يوجد في الجزائر أيضا (ديوان سيدي بلال) الذي يعد قبلة للطائفة الكناوية هناك. يقول الباحث الإثنوغرافي الفرنسي إيميل درمنغنهايم في هذا الصدد :(( إن الوضعية القاسية لزنوج إفريقيا الشمالية، هي التي شجعت على ظهور زوايا خاصة بهم، والحفاظ على طقوسهم السودانية الأصول ــالسودان الغربي الذي يعني بلدان الساحل الإفريقي حاليا ــ، المتكيفة مع المعتقدات البربرية والإسلامية، واستمرار الأنشطة الطقوسية لتلك الزوايا هو الذي شجع على الحفاظ على الوعي العرقي بين الزنوج والتعاضد المتبادل بينهم.)) ــ إيميل درمنغنهايم، عبادة الصلحاء في الإسلام المغاربي، مرجع سبق ذكره.ــ . وقد وصل تأثير الزنوج وغناء كناوة إلى ما وراء بحر الظلمات، وخاصة مع منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، ببلدة نيو أورلينز (مهد موسيقى الجاز ذات الجذور الزنجية الإفريقية)، الواقعة على ضفة نهر الميسيسيبي الهادئ بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث احتوت تلك المدينة مزيجا سلاليا متنوعا، من المهاجرين الإسبان والإنجليز والفرنسيين (طبقة الأسياد) الذين كانوا يملكون عددا وفيرا من العبيد الأفارقة ويسخرونهم في أعمال الفلاحة والزراعة في حقول قصب السكر والتبغ والقمح والأرز والقطن. ومع إلغاء نظام الرق والعبودية سنة 1863 على يد الرئيس أبرهام لينكولن، وجد الزنوج أنفسهم أحرارا بمدينة نيو أورلينز، التي كثرت فيها المقاهي والحانات، وعلب الليل وصالات الرقص، على تلك الإيقاعات والألحان المزيجة (الجاز)، المتكونة مما احتفظوا به من صرخات عذاباتهم وعبوديتهم، وتعبيرات روحهم الكئيبة،والمتأثرة بالموسيقى الإفريقية الوثنية والموسيقى الأوروبية المسيحية، وتلك الرقصات المرحة من (التانجو) و(الرومبا) و(السامبا)،التي توارثوها جيلا عن جيل، لأنهم كانوا يرددونها أثناء أعمالهم الشاقة بحقول القطن، وأثناء سمرهم اللليلي المستمر، مما جعلها تنتشر أكثر فأكثر، وخاصة منذ الستينيات من القرن العشرين، في ولايات شيكاغو، والتيمور، وواشنطن، ونيويورك، وبوسطن، وباقي مدن العالم، حيث أصبح (الجاز) فنا غنائيا وموسيقيا راقيا تتبناه الطبقة البورجوازية الأمريكية، ويعزف في كبريات الأوبرات والصالونات والقاعات الفاخرة. ــ ستيفان هان، من أعماق إفريقيا إلى العالم الجديد: مقاربات أمريكية لتاريخ العبودية، ترجمة محمد أمطاط، عن لوموند ديبلوماتيك، عدد خاص، ماي 2006 ــ . تتعلق المسألة في موسيقى وغناء كناوة بممارسة طقسية، فرجوية وثقافية، نرى من خلال علاماتها الصامتة، ككتابة منصهرة في ملامح الجسد الكناوي الراقص، التاريخ والهوية والثقافة، حيث يصبح هذا الثالوث بمثابة معرفة مجسدة تصدر عن الجسد الراقص، فسواء تعلق الأمر بالرقص الموجه أو بالجذبة، فإن كل منطقة من الجسد هي مستعملة كوسيلة ومرحلة داخل حكاية إشارية لفظية وموسيقية، هذه الحكاية تنتظم كتحول مستمر من إقليم جسدي لآخر. ــ باتريس بافيس، تحليل الفرجة،(بالفرنسية) منشورات ناتان، باريس،1996، ص.263، وكل ذلك، من أجل انفلات هذا الجسد المستعبد والمقهور من الرقابة، ليلج إلى عالم التعبير الحر الذي يفسح للغة الصامتة، الإشارية منها والحركية، الجهر بأصوات الأعماق الداخلية لهذا الكائن الكناوي، الذي عبر طقوسية (الدردبة) أو الليلة الكناوية، يخترق ترسبات اليومي الرتيب، حيث يرسم في الفضاء أشكالا من العلامات، تتأرجح بين ملفوظات الألم، والتأوهات والدعوات، والحركات الهستيرية والإشارات الراقصة. ومن هنا، فالجسد في طقوس الليلة يبعث لغة خاصة، فهو ينمحي ويخفت، ثم يتأرجح ويتقنع بألوان مختلفة، لبلوغ لذة الانتشاء عبر الجذبة، والسقوط على الأرض، مضحيا بحميميته بحثا عن حالة التطهير. ــ عبد القادر محمدي، سميائيات الجسد في طقوس كناوة: بحث في الهوية والامتداد، أنفاس نت من أجل الثقافة والإنسان،19 نوفمبر2010. ــ ومن هنا تكون الجذبة ذات طابع استيهامي، تعويضي وتطهيري، أقرب إلى تلك الطقوس التي مورست في الثقافة الإغريقية، بقصد تطهير الأفراد من الآثام والشرور عبر لغة الموسيقى والرقص. فالجذبة ممارسة فرجوية، تطهيرية وعلاجية، تجعل الجسد متحررا من ثقل الأهواء والعواطف والذكريات الأليمة. ويشكل الإيقاع الحركي في هذه الرقصة، علامة سيميائية ذات طبيعة إشارية، تحيل على مواضيع عديدة، من قبيل التحرر من كافة قيود زمان العبودية، التي كانت تكبل الأسلاف، وتلقي بهم في أسواق النخاسة في مختلف بقاع العالم، بحيث أن أبرز مجموعاتهم هي التي سرقت من المناطق السودانية..وهؤلاء هم الذين حملوا معهم تراثهم الحضاري، في قعر السفن التي قيدوا فيها بالسلاسل، ومات منهم من مات على الطريق. ــ د. شاكر مصطفى، الأدب في البرازيل، سلسلة عالم المعرفة، عدد 101، مايو،1986،ص.27 . إن رقصات وموسيقى كناوة، وما يتخللها من إيقاعات حركية ونبرات غنائية حزينة، موجهة صوب استعادة الذات والهوية الزنجية العتيقة، عبر عملية بناء أسطوري لأفضية خارج المجتمع العادي ـ بشكل مؤقت ـ أفضية يستطيع فيها المشاركون أن يحسوا بانتماء عاطفي ويحتفلوا بثقافة الجسد والرقص والحرية في صدوع المشهد الثقافي العادي، حيث تتحول فضاءات ومزارات ومواسم (كناوة) و(محلة أولاد بامبارا) إلى أماكن أسطورية مليئة بإشارات الجذور والأسلاف، فتعدو هذه الأماكن أكثر من مجرد بقع على الأرض، حيث يرمز المكان إلى مجموعة من الصفات الثقافية المميزة، ويقول شيئا ليس عن أين تقطن أو من أين أنت، وإنما من أنت. ــ مايك كرانغ، الجغرافيا الثقافية، ترجمة: سعيد منتاق، سلسلة عالم المعرفة، العدد 317، يوليو2005، ص.232ــ ص.141ـ142. إن رقصة الجذبة تسجل إذن داخل نوع من بيداغوجيا الوجود وتسمح بقراءة رمزية من حجم كبير لظواهر نفسية وعائلية واجتماعية...إنها تمنح سجلا من الدلالات التي تسمح بعرض حكاية حياة الذات ــ  توبيي ناتان، الحال والعلاج، مجلة سيكولوجيا،( بالفرنسية) الجزء29، العدد2،ص.180 ـ الجذبة سفر طقوسي، عبرها يعود الجسد إلى الروح وتتحول إشاراته الراقصة إلى كتابة كاليغرافية، تفضي قراءتها إلى الغوص في أغوار الذات الجاذبة، حيث وقع الموسيقى والغناء يفجر طاقة الجسد الجذاب سيولة حركية تعبيرية، بدءا من الرأس وحتى القدمين، حيث يعبر الجسد الراقص من حالة اليقظة إلى حالة الجذبة، ويعيش طقوس حياة أخرى، يشيدها من داخل ممرات تؤمن صعود الأسلاف الأسطوريين إلى فضاء الاحتفال، ويسمح كذلك لجماعة كناوة المشاركة في طقوس الاحتفال وأتباعها، وفق سفر متخيل صوب العودة إلى أرض الأسلاف، (( كما لو أنهم يحملون في جسدهم خطاطة تنقلاتهم المألوفة)) ــ بيير بورديو، عبد المالك السيد، الاجتثات من الجذور،(بالفرنسية) منشورات مينوي، باريس، 1964،ص.19. وذلك عبر رقصات كسمولوجية، يجسدها فعل دوران الجسد الراقص، الذي يعيد تشييد الفضاءات والأماكن التي يرغب الإقامة فيها، وفق معتقدات شبيهة باعتقادات جماعات طقوسية هندية، تعتقد في كون الرقص المقدس يعيد خلق العالم من جديد. ــ عبد القادر محمدي، سميائيات الجسد، مرجع سابق. ((إن الأنغام العيساوية القادمة من مدينة مكناس، عاصمة الحكم الإمبراطوري، فيما مضى، وكذلك الممارسات السادية المازوخية لطائفة احمادشة، التي تتميز بضرب الرؤوس وشقها بالشواقير، كلها ذكريات شعبية تؤرخ بشكل درامي لمقاومة السلطان الأسود/الكحل، وحكمه الاستبدادي الأسطوري، أضف إلى ذلك تمثيل دراما الباشا حمو، مصاص الدماء (الشارب دمو)، الراقصة والملطخة بالدماء، وتجسيمها الاجتماعي..فالتعذيب الرمزي والوهمي الذي يمارسه السلطان الجني الأسود، وشق الجسد الذي يمارسه الباشا حمو ــ على الرغم من تباعدهما في الزمن التاريخي ــ يتجلى في استحضارهما في الزمن الأسطوري معا، في أشكال درامية دموية تتألف من طقوس رقص الحضرة، يؤديها مجموعة من الوسطاء وأتباع الطوائف، بشكل دوري، يتم من خلالها استدعاؤهما لحضور محاكمتهما الأسطورية، ويتم إعادة تمثيل الجرائم والمظالم والعدوان وسوء المعاملة التاريخية للذات الاجتماعية في طقوس وتمثيليات صامتة لاواعية تتسم بالرقص والهذيان. ويمكن اعتبار مثل هذه النماذج الثقافية من الرقصات والحضرة، على حد تعبير فانون جهودا ضخمة لا شعورية يبذلها مجتمع يحاول جاهدا أن يروض مشاعر خوفه وإحباطاته، ويحاول أن يفهم ذاته لتحريرها من قيود الهيمنة.)) ــ د. محمد معروف، ود.بول ويلس، مرجع سابق.ــ.

نجمة الخاتمة:
على غرار ما يفعله شيوخ فن الملحون الذين يلجؤون، ساعة الختام والإشراف على النهايات، إلى غناء وأداء ما يعرف ب ((المكفر))، وهو غناء ذو مضمون ديني صوفي، مديحي وتوسلي..، وكأنهم يريدون من خلاله أن يكفروا عن كل ما  أتوا به من أشعار وقصائد وألحان الغزليات والشوقيات والغراميات والنزاهات والخمريات، على غرار هؤلاء، يستغيث شيوخ مداحة أولاد سعيد الشاوية، بأداء وغناء تواشي وقصائد صوفية ساعة الاقتراب من اختتام الحفل، وذلك مثل ((قصيدة النجمة)). فقد استمعنا إلى هذه القصيدة أو الزمردة الفريدة، على لسان الشيخ الفقيه العازف على آلة الوتار، الميلودي العلمي (60 سنة)، وهي قصيدة مدثرة بنفس زاهدة، وروح صوفية تعبدية ظاهرة، وفق تجاذب نفسي متوتر بين الانصياع لشهوات النفس، والرغبة الشديدة في إلجامها عن الهوى، وصقلها على الزهد والتعبد للوصول بها إلى طريق التقوى والصفاء، والبر والنجاة. ولذلك نجد اللغة في قصيدة (النجمة) تتلاعب بالألفاظ والمعاني والقوافي، معبرة بذلك كله، عن تأرجح عجيب، وتخبط غريب، وخلط فريد، بين الحب الإلهي والحب الإنساني، خلطا يدعو للدهشة والحيرة، إلى درجة يبدو فيها من المستحيل تحليل الخبرة الصوفية للشاعر أو المغني الصوفي، لأن الكلمات والعبارات تبدو عاجزة عن سبر أغوار هذه الخبرة الصوفية، بل وحتى أدق التحليلات النفسية لها محدوديتها بشأنها، ف (الألفاظ تظل على الشاطئ) كما يقول الصوفيون. ــ آنا ماري شيمل، مرجع سابق، ص.9ـ10ـــ. وللإشارة، فإن قصيدة (النجمة) هذه، ترجع إلى تراث غنائي شعبي صوفي عتيق، سبق وأن تغنى به الثنائي الشيخان العوني والبهلول (طارة ووتار) المنحدران من منطقة البهالة رأس العين، بقبيلة بني إبراهيم بامزاب. وما جاء في هذه العقدة الفريدة من القصيدة الشعبية الصوفية: (ناضوا ليها في السمايم والليالي/ الوضو ما هو غالي/ اللي ما قابل نجمة الفجر/ راه جبحو خاوي/ ما سمع ذيك المثالي/ قلبو مريض محسوب من الحيواني..). ومن الأفضل فهم الصوفية من خلال تحليل بنيتها، كما فعل هنري كوربان في أعماله عن محيي الدين ابن عربي، وكما فعل لويس ماسينون وبولص نويا..، برفع الستار عن الرموز والصور التي يستخدمها الصوفيون...يقول و.هـ.ت.غايردنر متسائلا:(( ألا نعتبر لغتهم لغة مقصودة في ذاتها؟ إنها تبدو لغة خاصة، وهي في الواقع لغة أدبية وبلاغية)). ــ آنا ماري شيمل، نفس المرجع،ص.11ــ ص.17. ــ وعن رموز الكواكب في الفن عموما، كتب الباحث فيليب سيرنج قائلا: (( إن عقيدة أن نجوم البروج مع الكواكب تحكم حياتنا، تعبر عن بقية عقابيل الأوهام الحديثة للأفكار القديمة. في مصر القديمة، كانت النجمة البيضاء، ذات الأفرع الخمسة، هي رمز كلمة (عبد)، فالرمز النجم يعبر عن فكرة الله. وحتى الربة (عشتار) كانت النجمة رمزها، و(عشتاروت) ليست سوى (أفروديت) عند الإغريق، وفينوس عند اللاتين. ومعلوم أن الكوكب فينوس يسمى بشكل شائع في فرنسا الحالية (نجمة الصباح) أو المساء، أو (نجمة الراعي). وفي كثير من المثولوجيات، هي رمز البعث، لأنها تمثل العبور من النار إلى الليل وبالعكس. وقد مثلت أحيانا بطقوس العبور تحت أشكالها في الوجود البشري: ولادة، تكريس، وموت.)) ــ . فيليب سيرنج، الرموز في الفن، الأديان، الحياة، مرجع سابق،ص.387. ــ. وفي الثقافة العربية الإسلامية، وردت تفصيلات عن نجمة الزهرة، وهي نجمة الصبح، في كتب تفسير القرآن الكريم، وخاصة في معرض الإشارة إلى قصة هاروت وماروت في الآية 102 من سورة البقرة. وقد ذكر المفسرون أنها كانت تدعى الحمراء، وأنها تمثلت بشكل امرأة فاتنة وساخنة، أغوت الملاكين هاروت وماروت، فجعلتهم يعتون في الأرض كفرا وفسادا، بقتل النفس وشرب الخمر وتعاطي الزنا..ولهذا كان بعض المؤمنين يلعنها ويتهمها...كما روي عن عبد الله بن عمرو وابن عباس وغيرهم..(انظر قصتها في تفسير ابن كثير للآية 102 من سورة البقرة). وفي لغة أهل التصوف، النجم أو((كوكب الصبح هو أول ما يبدو من التجليات، وقد يطلق على المتحقق بمظهرية النفس الكلية.)) ــ معجم اصطلاحات الصوفية: تصنيف عبد الرزاق الكاشاني ، مرجع سابق،ص.89 ــ إن لغة التصوف في قصيدة (النجمة) لا تخرج عن تلك الأنماط الثلاثة التي حاول من خلالها المتصوفة، من شتى الأديان، شرح خبراتهم الصوفية: أولها البحث المتواصل عن الله، الذي رمز إليه بصورة طريق يجب على السالك أو السائح أن يسلكه صعودا، كما عبر عنه بصور بلاغية عديدة، كالتدرج والارتقاء، أو معراج الروح. وثانيها ما عبر عنه بالمجاهدة، أو تربية النفس، بالابتلاءات، وتنقيتها بأنواع الآلام والمحن، كما عبر عنه بصورة من فن تنقية الذهب، وثالثها إشارات اقتبست من الحب الإنساني، عبر بها عن لوعة المحب وشوقه إلى الإشراق والتوحد.ــ آنا ماري شيمل، مرجع سابق،ص.9 ــ.

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية