✍️جرة قلم ✍️ الحلقة الخامسة : 📖 التعليم المغربي بين وهم الإصلاح و ضياع البوصلة..من يسرق عقل الوطن؟
برشيد نيوز : بقلم نجاة زين الدين
و أنا أسترق السمع في زاوية مقهى شعبي، إلتقطت أصداء نقاش محتدم بين ثلة من المتقاعدين، عن التعليم... عن حاله و مآله، عن مآسيه و إرتباكاته. تحدثوا بحرقة، و ببعض الحنين عن أيام خوالي أثناء أدائهم لرسالتهم النبيلة، إختلفوا و تناقشوا بشغف و صخب، لكنهم –كغيرهم من عامة الناس– أسندوا علل التخلف إلى ظاهر الأمور و سطحية القشور، فأهملوا عمق الإشكال و صلب الجذور و غاب عنهم جوهر الداء مما عذر عليهم كغيرهم إمكانية تحديد بوصلة التصحيح الحقيقية و وصف العلاج بنجاعة لتحديد الدواء...
فالتعليم لم ينحدر وحده، بل أنزل قسرا بسبب إنحدار منظومة مجتمعية بالكامل، و لم يتخلف عفويا، بل أخضع في ذلك لسياسات واعية مدركة لغاياتها و ممنهجة بتكتيك مدروس، فجعلت من هذا القطاع الحيوي حقل تجارب، و مضمار رهان على مستقبل لا تملكه الدولة، بل تصوغه المؤسسات المالية الدولية، ليتواطأ معه صمت الأحزاب السياسية في هذا الخذلان المرير، دون نسيان خنوع النخب التي إكتفت بإحتساء القهوة بالمقاهي و مناقشة هوامش المواضيع بكل سفافة مع كامل الأسف، في ظل إجترار الحسابات الضيقة، التي شردمت العمل و قزمت الحصيلة!!!
1) تشريح الجثة التعليمية:
لنعترف دون مواربة: المدرسة العمومية ماتت سريريا، فما تبقى منها سوى هيكل يحاكي الجسد بلا روح، يئن من وطأة الإكتظاظ، و نقص الكفاءات، و ضعف التكوين، و هزالة المناهج و تبعية البرامج...أما القطاع الخاص، فقد تحول إلى تجارة مربحة تباع فيها المقاعد و الضمائر، و تسعر فيها الشهادات حسب القدرة الشرائية دون إستحقاق علمي...المهم هو النجاح بمعدلات متفوقة بدون مؤهل معرفي...
إن كنا نحتاج إلى تشخيص صريح، فإليكم بعض الآثار و الملامح:
*)إنهيار الثقة في المدرسة: لم تعد الأسر تطمئن إلى المدرسة العمومية، بسبب كل البرامج السياسية التي تمكنت من تجويف المرفق العمومي من مصداقيته، حتى الطبقات الفقيرة باتت تبحث عن "الخلاص" في تعليم مدفوع، و لو على حساب التقشف و الجوع... و هنا نجحت سياسات الخصخصة في بيع وهم النموذج المثالي الكاذب لمؤسساتها الخاصة و لو على حساب نبل و إستماتة الكثير من شرفاء أطر القطاع العام الذين لازالوا يناضلون في الخفاء من خلال أذائهم لواجبهم المهني بكل نبل و شرف أو من خلال تقديمهم لدروس الدعم المجانية في أوقات فراغهم...و لهؤلاء (نساءا و رجالا) أرفع القبعة.
*)موت المدرس إجتماعيا: لم يعد المعلم ذاك النموذج الذي يحتذى به، بحيث هرست كرامته، و أفرغ جيبه بسبب ثقل الديون التي زج به فيها كسائر المواطنين، و ثقل البرامج الإرتجالية، ليتحول بذلك إلى مجرد منفذ لتعليمات برامج جوفاء و إستراتيجيات غوغاء، و من ثار و تمرد عن خنوع القطيع، أتهم بأنه مشاغب و يبحث عن زعزعة سياسة البلاد و عرقلة تعلم العباد...
*)مناهج عقيمة من التفكير: لا إبداع، لا بحث، لا تربية على النقد، مجرد مذكرات تتناسل و تتبدل وفق صفقات طبعت و نشرت بتوصيات خارجية، لا وفق إختيارات المتعلم و لا إحتياجات الوطن.
2) من يقتل التعليم؟ الأسباب الحقيقية:
من الغباء السياسي أن نختزل سبب الإنهيار في الكسل أو قلة الموارد، أو إنعدام المستوى و تأهيل المؤطرين، لأن ما يعانيه التعليم المغربي هو نتيجة مباشرة لقرارات إستراتيجية خاطئة، أتخذت منذ عقود:
🟢 خضوع المغرب لإملاءات صندوق النقد الدولي منذ ثمانينيات القرن الماضي، حين فرض "برنامج التقويم الهيكلي"، و بدأت الدولة تنسحب تدريجيا من تمويل الخدمات العمومية و على رأسها التعليم، لتفتح أبواب الخوصصة تدريجيا.
🟢 إنهيار دور الأحزاب السياسية و النقابات المهنية و العمالية، التي تحولت إلى أذرع إنتخابوية صماء، تسوق لما يملى عليها بدل من أن تكون قاطرة للمساءلة و التأطير و آلية قوية للتصدي للهجانة و مقاومة التفاهة و سياسات الإستيلاب المعرفي...
*) هيمنة لوبيات النشر و التعليم الخاص، التي تفرض أجنداتها و مقرراتها على حساب الجودة و الهوية الوطنية.
*) سياسات التلهية و الإصلاح الموسمي: لم يخضع التعليم يوما لإصلاح جذري عميق، بل لسلسلة من "البرامج العاجلة" التي لا تعمر طويلا، و تستهلك ميزانيات ضخمة دون محاسبة!!!
*) تهميش البحث العلمي و ذبح الجامعة: لا يمكن أن نتحدث عن تعليم ناجح في غياب رؤية وطنية واضحة لتطوير البحث العلمي، و الإستثمار الحقيقي في الحقل المعرفي، و تحفيز الإبتكار و دعم برامج مواكبة للتقدم التكنولوجي، مسايرة للرقمنة التي تقفز بالتطور العلمي بصورة ضوئية خطيرة، دون حرمان كل أبناء الشعب من هذا التنوع العلمي الذي قد لا يكتفي بصقل كفاءاتهم بل قد يصل حد تفتيق مهاراتهم المعرفية الخاصة...فمن لا يتطور يتدهور و منال يتقدم يتقادم، و بذلك يوقع بيديه شهادة مماته و إستيلابه....
3) ما العمل؟ الحلول الذاتية و الموضوعية:
بعيدا عن لغة التباكي، آن لنا أن نطرح حلولا تتسم بالجرأة و الوضوح:
*) بناء رؤية تعليمية وطنية مستقلة:
فلا إصلاح دون سيادة في القرار التربوي، حيث يجب التحرر من هيمنة الخارج، و صياغة نموذج تربوي مغربي يعكس خصوصياتنا الثقافية، و إحتياجاتنا التنموية، و طموحاتنا المستقبلية...
*) إعادة الإعتبار و الهبة للمدرس:
برفع أجور المعلمين، و تحسين ظروفهم، و إشراكهم في صياغة السياسات، و إلغاء المقاربات الأمنية في التعامل مع مطالبهم. فـ"المدرس" هو العمود الفقري لأي إصلاح مجتمعي كان، و لا مناص لنا من ذلك...
*) منهاج جديد للعقل لا للحفظ:
علينا أن ننتقل من مناهج تكديس المعلومات إلى مناهج تشجيع و تفتيق التفكير، من ثقافة الإمتحانات إلى ثقافة الأسئلة، من تلقين الجواب إلى صناعة السؤال، لتحرير العقول من البلادة الممنهجة...
*) دمقرطة التعليم فعليا لا بالشعارات:
لا تعليم ديمقراطي إذا بقي الإمتياز لأبناء الأغنياء، نحتاج إلى سياسة تمييز إيجابي للمناطق القروية و الهشة، و تحفيز التعليم العمومي بتجهيزات و كفاءات لا تقل عن التعليم الخاص، الذي تحول إلى وكالة لبيع الشهادات و نفخ النقط...و الغش في النتائج للحصول على النجاح الغير المستحق، بدافع النجاح فقط و لو على حساب التأهيل و الإستحقاق الفعلي...
*) ربط التعليم بسوق الشغل:
و هنا يجب ألا يخضع التعليم فقط لمنطق المقاولة، بل يجب أن ينظم وفق حاجات الوطن في الطب و الهندسة و التعليم و الزراعة و العلوم، لا فقط وفق منطق الربح...بل وفق منطق الخصاص، لضمان إستمرار الكثير من التخصصات التي بدأت تلجأ إلى العمالة الخارجية لنذرة وجودها داخل الوطن...
*) رقمنة حقيقية لا إستعراضية لأخذ الصور:
فرقمنة المنظومة يجب أن تصمم لسد فجوة التعليم، لا لخلق فجوة رقمية جديدة بين أبناء المدن و أبناء الهامش.
4) هل نريد تعليما يقود أم تعليما يقاد؟
التعليم ليس قطاعا تقنيا يدار كباقي الإدارات، فالتعليم هو البوصلة... فإذا ضاعت، ضاع كل شيء...فلا تنمية بدون تعليم، و لا حرية بدون تعليم، و لا عدالة بدون تعليم و لا تدبير بدون تعليم و لا ديمقراطية بدون تعليم يتساوى فيه إبن الوزير مع إبن الشعب، لكي يبقى تمييز الكفاءة و الجدية و الإنضباط و الإلتزام و الإجتهاد هو موطأ الفرق لا غير...
أما من يتساءلون –كأولئك المتقاعدين الذين إستمعت إليهم– عن السبب الحقيقي وراء تدهور المدرسة المغربية، فليعلموا أن التعليم حاليا لا يفشل عفويا بل يفشل عمدا... و الغاية: تجهيل الشعب، للحصول على شعب قابل للترويض، سهل التوجيه، لا يسائل و لا يطالب بأي شيء: حاضـــرا لكنه غــــائــــــب؟؟؟!!!
و مع ذلك فالأمل في التغيير لم يمت، ما دام في هذا الوطن من يؤمن بأن المدرسة ليست جدرانا، بل مصانعا للعقول، و رايات للكرامة الوطنية...و الرافعة الوحيدة للتقدم الفعلي و الحقيقي، فكفانا من هدر المزيد من الوقت و الأموال على برامج وهمية...في ظل تسليع الإنسان و التبعية...