✍️ الأسرة لبنة المجتمع ✍️ الحلقة الأولى: لماذا يخفق الزواج؟؟؟ من مؤسسة للمساكنة و الرحمة إلى ساحة للصراع و العنف المستمر
برشيد نيوز : بقلم ذ.نجاة زين الدين
لم تكن مؤسسة الزواج عبر التاريخ سوى رباط مقدس يقوم على السكينة و المودة و الرحمة، كما عبر عنها القرآن الكريم في أجمل تصوير: “و جعل بينكم مودة و رحمة”، غير أن هذا البناء الروحي و الأخلاقي بات، في عصرنا الحديث، معرضا لإهتزازات عميقة حولته لدى الكثيرين، إلى مؤسسة صراع دائم، بدل من أن يكون ملاذا آمنا للطمأنينة و المساكنة و الحب و الإحترام و التقدير.
فما الذي أصاب هذا الرباط حتى صار هشا إلى هذا الحد؟ و لماذا تتصدر أخطاء الأزواج قائمة الأسباب في تعثر هذا النموذج الإنساني الرفيع من العلاقات المنبثقة عن ميثاق غليظ أمام الله سبحانه و تعالى؟؟؟
أولا: خلل التربية و مسؤولية التنشئة الذكورية:
تبنى جذور أغلب الإخفاقات الزوجية اليوم في الطفولة، فالمجتمع ما زال، للأسف، يربي بعض الذكور على الإمتياز و التسلط، و على أن المرأة مخلوقة للخدمة لا للمشاركة، مما يولد في الوعي الجمعي نرجسية ذكورية يصعب تفكيكها عند الكبر.
و حين يدخل هذا الرجل إلى مؤسسة الزواج، لا يدخل بعقل شريك، بل بقلب “مالك”، وبذهنية “المفوض عليه”، و بمنطق التشيء، فإذا بهذه المؤسسة تتحول من بيت حب إلى أرض معركة، تجد فيه المرأة نفسها ملزمة على لعب دور المصلحة لتتحمل فيه عبء التقويم و التصحيح و لعب دور الأم بدل الزوجة، مما يعرضها إلى إستنزاف دائم و إنهاك مجاني.
ثانيا: فخ المقارنات… حين تصبح الزوجة ضحية سباق وهمي:
من أكبر أسباب تحطيم المرأة عاطفيا أن يقحمها زوجها في مقارنة ظالمة مع نساء أخريات:
– صديقاتها.
– زميلاته.
– نساء المنصات
-أو حتى العابرات في حياته اليومية.
هذا السلوك ليس إلا عجزا داخليا يحمله بعض الأزواج في مخيلتهم المريضة، الشيء الذي يجبرهم على البحث اللامتوقف عن “النموذج البديل” في الخارج، بدل إصلاح أعطابهم من الداخل.
و ما لا يفهمه هؤلاء هو أن المقارنة تقتل الثقة، و تجرح الكرامة، و تحول المرأة إلى كيان مستنزف و مطارد يشعر دائما بالنقص مهما بذلت من جهد و من تضحيات، هاته التضحيات التي لا تقابل بالإعتراف و لا بالإمتنان و لا بالتقدير و لا بالعرفان.
ثالثا: الخيانة… مرض أخلاقي قبل أن تكون إنزلاقا عاطفيا:
السؤال الجوهري: لماذا يتزوج الرجل إذا كانت حاجاته العاطفية و الجنسية تتغذى أساسا على الخيانة؟
الجواب لا علاقة له بالحب و لا بالحاجة، بل يرتبط بـ:
1) غياب النضج الأخلاقي.
2) ضعف السيطرة على النزوات.
3) عقلية الإستهلاك العاطفي التي جعلها الإعلام التافه “موضة” مقبولة و مستأنس بها.
4) ثقافة التطبيع مع الخيانة من منطلق أنها مهارة رجولية مزعومة و باب للتوازن الذكوري الضروري.
فالزوج الذي يخون لا يعاني من “فائض الرغبة”، بل من عجز في الإنضباط، و من فقر روحي و قيمي و أخلاقي يجعله يلهث خلف كل بريق خارجي، ناسيا أن الخيانة ليست إنحرافا لحظيا فقط، بل تكسيرا بطيئا لروح الزوجة و قتل لإكسير مؤسسة الأسرة و خيانة لأمانة الميثاق الغليظ مع رب العالمين.
رابعا: الإهمال… حين يختفي الزوج و لا تبقى إلا ظلاله:
من أكبر آفات الزواج المعاصر أن الزوج يحضر بجسده و يغيب بروحه،
تجده يعيش مع زوجته كأنها قطعة أثاث في البيت:
– لا يسمع.
– لا يناقش.
– لا يشعرها بحضوره.
– و لا يرى إحتياجاتها النفسية.
فالإهمال ليس سلوكا عابرا، بل نوع من العنف الهادئ الذي يطفئ نور العلاقة ببطء، و يجعل المرأة تعيش عزلة مؤلمة داخل بيت يفترض أن يكون موطنا للألفة و مصدرا للسعادة.
خامسا: كشف أسرار البيت… سقوط للهيبة و تهشيم للثقة:
من أخطر الأخطاء أن يفتح الزوج أبواب حياته الخاصة أمام أصدقائه، فيحول هموم البيت إلى مادة دردشة، و الصعوبات الزوجية إلى موضوع للسخرية و التنكيت.
فهذا السلوك ينسف أساسا كل أركان الزواج و التي يبقى الستر أهمها، فالبيوت لا تبنى بالكلام عنها في الخارج، و لا بفضح خصوصياتها أمام من هي و دب، بل بالمصارحة في الداخل و بالمنافسة الحضارية الراقية...
و من يفعل ذلك في ظل العنيف المادي أو اللفظي أو النفسي، فإنما يبحث عن تأكيد رجولته الغائبة أمام أصدقائه، و لو على أنقاض كرامة زوجته، متناسينا أنه بهذا السلوك المشين يخدش كرامته قبل أن يحط من كرامة زوجته .
سادسا: الإعلام الرديء… صناعة للوعي الهش و للرجولة الزائفة و للنزوات الغير المتوقفة و تسليع دائم و جائر لكيان المرأة؟
لا يمكن إنكار دور الإعلام التافه الذي:
يروج للخيانة كذهاء.
و يجمل صورة “العلاقات الموازية” لمؤسسة الزواج بل يسعى إلى شرعنتها بالعرف المريض و يحاول غرس قدسية المظهر بدل التركيز على القيم و الأخلاق النبيلة، لينشر بذلك نمذجة الرجل المستهتر الذي لا يتحمل المسؤولية على أنه هو النموذج للرجولة المثالية و الناجحة و السعيدة.
كل هذا يخلق جيلا من الأزواج، الذي يعتقد أن الزواج مجرد بطاقة إجتماعية، تستغل في ظل نفاق إجتماعي سام و قاتل، لا مشروعا أخلاقيا و روحيا يتطلب صبرا و إجتهادا و تضحية و تنازلات و إحتراما و تقديرا متبادلا.
سابعا: غياب النضج قبل الزواج…عندما يتحول الزواج إلى موضة لا مشروعا أسريا:
الكثيرون يدخلون الزواج بدافع:
ضغوطات المجتمع أو هروبا من الوحدة أو رغبة في إثبات الرجولة أو تحت إلحاح العائلة. فيهملون أهم عامل ألا و هو عامل النضج الفكري و العاطفي، فلا يعرف الزوج معنى المسؤولية الأخلاقية، و لا يدرك أن البيت يبنى بالعقل قبل المال، و بالضمير قبل الرغبة و بالقيم الإنسانية قبل إختزال العلاقة برمتها في علاقة جنسية تلبية لغريزة حيوانية، طلب منا رب العالمين تحكيم العقل فيها، هذا العقل الذي كما سبق و أن ذكرت تميز تفضيليا من رب الخلق لمخلوقه الإنسان.
ثامنا: صبر الزوجة… قوة لا يدركها الأزواج الضعفاء:
بعض الأزواج الشاذين سلوكيا يظنون أن صبر الزوجة عليهم ضعف، مع أن الحقيقة أنها تصبر حفاظا على:
– الأبناء.
– البيت.
– الإستقرار.
– و حماية الأسرة من التشتت.
هي تصبر لأنها تدرك ثقل المسؤولية، و تعرف أن النزوات لا تقيم بيتا، وأن الإنفجار العاطفي يكلف الكثير.
لكن هؤلاء الأزواج لا يقرؤون هذا الصبر على حقيقته، فيتمادون، و يظنون أن صراخهم قوة، و أن خياناتهم المتكررة رجولة، و أن تجاهلهم حرية و أن إستهتارهم حق...
تاسعا:أنانية الزوج… حين يتحول التعالي إلى جرح بارد تهدم به كرامة الزوجة:
و من أخطر ما يبتلى به الزواج في زماننا أن ينزلق بعض الأزواج إلى أنانية متضخمة تجعلهم يستعملون منطق التعالي على زوجاتهم، كأن وجودهم في حياتهن “منة” أو “صدقة”، و كأن قبولهم بالزواج بهن فضل يجب أن يشكر عليه صباح مساء.
و هذا السلوك ليس رجولة و لا قوة، بل عجب مرضي يحاول صاحبه أن يحافظ على صورة مزيفة لنفسه عبر تحطيم الصورة الداخلية لزوجته، فيمعن في التشكيك في مؤهلاتها، و التقليل من قيمتها، و تحويل كل نجاحاتها إلى صدفة، و كل آلامها إلى مبالغة، و كل عطائها إلى واجب لا يشكر.
و ينسى هذا الزوج — أو يتناسى — كم قضى من الليالي و الأيام و هو يطاردها، و يتقرب إليها، و يرجو رضاها، و يفاوض قلبها لتقبل به زوجا و شريكا، كما ينسى أنها لم تسقط من السماء، بل كانت اختيارا حرا، و أنها لم تقتحم حياته، بل دخلت إليه من باب العهد و الوعد و المودة.
و ما لا يدركه الكثيرون أن هذه الأنانية المتورمة لا تقف عند حدود الغرور، بل قد تسقط بصاحبها في متاهة السيكوباتية السلوكية دون أن يشعر؛ إذ يبدأ في ممارسة الإستعلاء كقيمة يومية، و يتلذذ بالتحكم العاطفي، و يستمتع بإضعاف ثقة زوجته في نفسها ليبقى هو مركز الكون.
و هذا الإنحراف النفسي — و إن بدأ صغيرا — لا يلبث أن يتحول إلى عنف صامت ينهش روح المرأة، و يطفئ طاقتها، و يحول البيت إلى ساحة إبتلاء بدل أن يكون دار سكن و رحمة.
و لذلك، فإنه على كل زوج أن يتذكر أن الكرامة ليست شيئا يمنح أو يسحب، و أن التعالي لا يبني بيوتا، و أن المرأة لا تزدهر تحت ظل الإهانة، بل في مناخ الاحترام و العدل و التقدير.
فمن أراد أن يكون زوجا صالحا، فليبدأ بنفسه، و ليجاهد كبرياءه قبل نزواته، و ليتخلص من تلك الأنانية التي لا تثبت رجولة، بل تهدم أسرة، و تطفئ قلبا، و تفضح نقصا داخليا مهما حاول صاحبه إخفاءه.
خاتمة: الزواج… مشروع إنساني لا يستقيم إلا بالعقل و القيم و الأخلاق و الخوف من رب العباد:
إن إخفاق الزواج اليوم ليس قدرا محتوما، بل نتيجة تراكمات:
– تربوية
– إجتماعية
– إعلامية
– و نفسية
و لا يستقيم هذا الرباط إلا حين يدرك الرجل أن الزواج مسؤولية لا نزوة عابرة، شراكة لا ملكية، إحتراما لا قهرا، وفاءا لا خيانة، و وعيا لا تهورا.
فحين يفهم الزوج أن المرأة روح، و كيان، و قيمة، و أن وجودها في حياته نعمة لا عبئا…
عندها فقط يعود الزواج إلى أصله:
سكينة، و مودة، و رحمة مؤثتا بالحب و الإحترام و التقدير.

