✍️جرة قلم ✍️الحلقة الحادية عشر: لافيراي السالمية... حين يتحدث الحديد بلسان الكرامة
برشيد نيوز : بقلم ذ.نجاة زين الدين
في زمن تتغنى فيه الخطابات الرسمية بشعارات التنمية و العدالة الإجتماعية، يظل في قلب الدار البيضاء، و تحديدا في لافيراي السالمية، مشهد آخر لا يرى من نوافذ المكاتب الوزارية و لا من شرفات الحكومات المتعاقبة...
مشهد تنبعث منه رائحة العرق الممزوجة برائحة الزيت المحترق، و أصوات مطارق تضرب الحديد كأنها توقظ الضمير الغائب لوطن نسي أبناءه الحقيقيين.
إنهم شباب الميكانيك، أولئك المقاتلون بصمت، الذين يصنعون الحياة من قلب الصعاب، في معركة يومية لا سلاح لهم فيها سوى أيديهم المتشققة، و كرامتهم التي لا تشترى.
1) شباب من لحم الوطن:
إنهم ليسوا عابري سبيل في رصيف الحياة، بل هم نبت من لحم هذا الوطن. شباب ولدوا في أحياء شعبية ضيقة بمختلف مدن المغرب المنسي، حيث الحلم يكبر بحذر، و الطموح يختنق بين جدران الحاجة،
لم تسعفهم الظروف ليكملوا دراستهم، لا لكسل فيهم، بل لأن القدر إختار لهم أن يكون الخبز قبل الكتاب، و أن يكون المفتاح و حقيبة معدات العمل قبل الشهادة، و بذلك حملوا أدواتهم بدل الأقلام، ليقتحموا عالم الميكانيك العام للسيارات و الشاحنات، حاملين في قلوبهم طموحا أكبر من المحركات التي يصلحونها.
بينهم من تزوج باكرا ليبني أسرة رغم قساوة الظروف كسفيان القادم من قلعة سراغنة و الأب لأربعة أطفال الذي يبقى أقصى حلمه هو بيت يأويه بالبيضاء مع أسرته الصغيرة و والديه، و منهم من يعيل والديه المريضين، و منهم من تجرع مرارة اليتم ليجد نفسه مسؤولا على إخوته ليمنحهم فرصة تعليم حرم منها هو كحمزة الوافد من قصبة تادلة و ياسين القادم من خميس الزمامرة.
و آخرون ضاقت بهم الدنيا، فهربوا من قسوة الواقع إلى مخدر يقتل فيهم ما تبقى من أمل، ليسوا مجرمين كما يراهم البعض، و لا مواطنين من الدرجة الثانية كما يعاملهم أصحاب السيارات الفارهة الذين يلجأون إلى لافيراي السالمية بحثا عن آليات عيار للصيانة، بل هم ضحايا منظومة تركتهم بلا سند و لا تكوين مهني في إختصاصهم و لا أفق، حتى صاروا يحاربون الزمن ببطون خاوية و أحلام مكسورة و بنفوس مهزومة.
2)مقاتلو اليومي... بلا غطاء و لا ضمان إجتماعي:
يبدأ يومهم مع أول خيوط الفجر، حيث الحياة تقاس بالجهد لا بالساعات.
تراهم منحنين تحت الشاحنات، تغطيهم الأتربة و تتقاطر على وجوههم قطرات الزيوت التي إختلطت بدمائهم، يواجهون الحر في الصيف، و البرد القارس في الشتاء، دون تأمين صحي أو ضمان إجتماعي، و لا حتى إعتراف من الدولة بأنهم جزء من النسيج الإقتصادي الوطني.
إنهم مياومون في وطن لا يعترف بالمياومين و لا بعناء هذه الطبقة التي تغطي كل القطاعات الحيوية و التي إن غابت تعطلت دواليب الحياة الإقتصادية بكل البلاد، لكن هذا الوطن يتذكرهم فقط عند محاسبتهم على الضرائب إن إستطاعوا توفير شيء من مكاسبهم المخضوضبة بملوحة العرق المتصبب من جبينهم لكنه يغيب(الوطن) عنهم حين يمرضون أو يصابون أو يقصون من العمل.
فبمجرد أن تضعف سواعدهم، و يخونهم الجسد، يجدون أنفسهم على هامش الحياة... بلا معاش، بلا دواء، بلا كرامة.
يتحولون إلى ظلال منسية، تمر بجانبها السيارات التي أصلحوها يوما، دون أن يلتفت أحد إلى وجعهم الذي فضل المواراة خلف لسان صامت، إختار معاندة الحياة في كبرياء و الموت في عزة نفس...
3)وطن يتذكر مواطنيه فقط في مواسم الشعارات:
في كل موسم إنتخابي، يتقاطر المرشحون على لافيراي السالمية، يوزعون الوعود كما توزع المناشير، و يتحدثون عن “الإصلاح” و“الإدماج” و“التأهيل”، ثم يرحلون تاركين خلفهم الصمت و الغبار و الغبن و السأم و الإحباط...
لا أحد عاد بعد الإنتخابات ليعرف إن كان أولئك الميكانيكيون ما زالوا أحياء أو أصبحوا مجرد أرقام في أرشيف النسيان...
أي عدالة هاته التي تكرم من يثرثرون في المكاتب، و تهمل من يصلحون عجلات الوطن لتسير؟؟؟؟
أي إنصاف أن يبقى هؤلاء الكادحون خارج مظلة الرعاية، بينما تصرف الملايين على مشاريع وهمية النظارات لا تطعم فقيرا و لا تداوي مريضا و لا تنصف مسنا؟؟
4) الوجع الذي يتحدث بإسم الوطن:
هؤلاء الشباب هم الوجه الحقيقي للوطن حين يخلع مساحيق الشعارات.
هم المرآة الصادقة التي تعكس فشل السياسات العمومية في إدماج الكفاءات اليدوية، و في حماية اليد العاملة الحرة.
ففي كل علبة زيت يسكبونها، و في كل برغي يصلحونه، و في كل "بلون" يفتحونه حكاية عرق و دم و صبر لا تعرفها نشرات الأخبار و لا تدركها الأبصار...
إنهم الكادحون الذين يرفعون الوطن على أكتافهم دون أن يعرفوا أنهم، في نظر مؤسسات الدولة، مجرد أرقام بلا هوية مهنية و بلا بطاقات إئتمان مصرفية و بلا وثائق تأمينية.
فكم من واحد منهم قضى عمره بين الأدوات و المفاتيح، ليجد نفسه في نهاية المطاف مريضا، منسيا، طريدا يطارد ثمن دوائه كما يطارد الحلم الضائع.
هؤلاء لا يطلبون صدقة، بل حقا مشروعا في العيش بكرامة و في ظل الحقوق الإنسانية التي تعترف بها كل المواثيق الدولية.
5) نداء إلى الحكومة و المجالس المنتخبة:
أيها السادة في مراكز القرار،
كفاكم حديثا عن التنمية و أنتم تتجاهلون من يصنعونها!
إنزلوا إلى لافيراي السالمية و سيدي مومن، و تلمسوا وجوه هؤلاء الرجال الذين أنهكتهم الحياة و لم تتهاو عزيمتهم، و إسمعوا منهم بدل أن تتحدثوا عنهم و تفحصوا أنينهم قبل أن تحاكموا صلابة و إنحراف بعضهم...
أطالب بإسم كل كادح في هذا الوطن بما يلي:
*) إحداث صندوق وطني لدعم المياومين و العاملين الأحرار، يضمن تغطية صحية و تقاعدا كريما لكل من أفنى عمره في خدمة الناس دون حماية إجتماعية.
*) إطلاق برنامج وطني للتكوين و التأهيل المهني المجاني لهؤلاء، يمكن شباب الميكانيك من تطوير مهاراتهم و الحصول على شهادات رسمية معترف بها، لينفتحوا أكثر على فرص الحياة.
*) تنظيم فضاءات العمل الغير المهيكلة كلافيراي السالمية، أو سيدي مومن عبر تهيئة البنية التحتية و توفير الكهرباء و الماء و المرافق الصحية، و تحسين شروط العمل.
*) إدماج هذه الفئة في برامج المقاولات الصغرى و التعاونيات المهنية، لتتحول خبرتهم إلى مشاريع إنتاجية مدرة للدخل و بصورة مستدامة.
*) مواكبة نفسية و إجتماعية للشباب الذين إنحرفوا تحت ضغط الحاجة أو الإدمان، عبر برامج تأهيل و إعادة الإدماج لتحفظ إنسانيتهم و تصان كرامتهم.
6) كلمة أخيرة... صرخة بحجم الوطن:
يا من تملكون القرار،
تذكروا أن الوطن لا يبنى فقط بالمهندسين و السياسيين و بالمحامين و القضاة و الأطباء و المدرسين، بل بالميكانيكي الذي يعيد للحياة محركا ميتا، و بالعامل الذي ينقذ سيارة لتواصل طريقها، وبالعامل الحر الذي يكابد بصمت ليبقي أسرته واقفة و بالإسكافي و بالبلومبي و الكهربائي و البائع المتجول للخضر و للفواكه و الصباغ و الطولوري و عامل النظافة...الخ
إنهم أبطال بلا أوسمة، و جنود بلا رواتب، و مواطنون بلا غطاء.
فإن لم تنصفوهم، فأنتم تخونون فكرة الوطن ذاتها.
و إن لم تسمعوا لصرختهم اليوم، فستسمعون غدا صمتهم الثقيل و هو يجلجل في ضمير التاريخ.
من لافيراي السالمية اليوم تنطلق صرخة وجع و كرامة
فهل من مسؤول يسمع؟؟؟
أم أن الضجيج السياسي سيبقى دائما أعلى من صوت الحقيقة؟؟؟؟ أم سيظل دعم الميزانيات السنوية للبلاد حبيس رفوف مكاتب الحكومات بالرغم من وضوح التعليمات الملكية الواضحة و التي تعاق و يتعثر تنزيلها بسبب من يديروا الشأن العام بالبلاد، فهل من جرعة أمل في التغيير لأننا نحب هذا الوطن و نتمنى أن نراه في مصاف الدول المتقدمة بكل حرقة و غيرة وطنية صادقة...