✍️جرة قلم✍️ الحلقة الأولى: الأسرة المثالية..أساس بناء مجتمع سليم
برشيد نيوز :بقلم نجاة زين الدين
تعتبر الأسرة اللبنة الأساسية في بناء مجتمع سليم، فهي الحاضنة الأولى للقيم و المبادئ، و المكان الأول الذي ينشأ فيه الأفراد يعني مواطني البلاد، كما أنها الإناء الذي سيؤطر لهم كيفية التعامل و التفاعل مع العالم الخارجي.
لهذا فالأسرة المثالية لا يمكن إعتبارها مجرد حلم يصعب تحقيقه، بل هي واقع يمكن تجسيده و الوصول إليه من خلال مجموعة من القيم و المباديء التي تزرع و الممارسات العملية التي تحقق التوازن بين الحب و الإحترام و التفاهم و المشاركة لكل مكوناتها دون إقصاء و لا تجاهل لأي منها.
1)مفهوم الأسرة المثالية:
الأسرة المثالية ليست تلك الأسرة التي تخلو من المشاكل، بل هي تلك التي تجيد التعامل مع التحديات و طبيعة هذه المشاكل، بطريقة صحية و بناءة لتجاوزها، إنها الإطار الصغير و اللبنة الأولى و الأساسية، التي توفر بيئة دافئة و آمنة لجميع أفرادها، حين تتعزز بها الروابط العائلية، و تصان بها القيم الأخلاقية، و تحفظ فيها الكرامة الإنسانية لكل عناصرها و يشجع فيها كل فرد على حد سواء(ذكرا و أنثى) على النمو و تحقيق إمكاناته بتفجير كفاءاته و إخراج أجود ما لديه، لتأسيس مجتمع متكامل مبني على تقدير الزوج و الزوجة و الأبناء، دون السعي إلى إذابة عنصر في آخر أو إستحواذ طرف فيها على الآخر أو إختراق لخصوصيات عناصرها بكل تسلط أو هيمنة أو إستبداد، من منطلق أن تدبيرها يقوم على القطب الأحادي، الرافض للإستماع للرأي الآخر، بل على العكس، وجب إعتماد التكاملية و التشاركية و المناقشة الحضارية التي يسودها الإحترام و التقدير لأبسط الأفكار و الآراء دون إزدراء و لا تهكم، لكي يتمكن أفراد هذه الأسرة في الأخير من تحكيم ناصية المنطق و تشوير الحكمة بترشيد و ترتيب أولويات هذا التأسيس الإنساني و المؤسساتي، إذا ما إعتبرنا الأسرة أولى المؤسسات الإجتماعية التي تتكفل بصناعة المواطن و الوطن.
2)أسس الأسرة المثالية:
*) الحب و الإحترام المتبادل:
الحب و الإحترام المتبادل هما جوهر العلاقة الأسرية الناجحة، فعندما يشعر كل فرد فيها بأنه محبوب و مقدر، يزدهر التواصل و تزداد الروابط قوة و متانة و تماسكا، لهذا يجب على الأبوين إظهار الإحترام لبعضهما البعض، بكل محطات تواجدهما و خاصة أمام الأبناء، ليكونا قدوة حسنة لهم، و ليتمكنا من بسط هذا الإحترام بخصوصياته على كل المحيط الذي يكتنفهما.
*) التواصل الفعال:
التواصل الدائم و الناجع و الفعال هو المفتاح الرئيسي لتجنب سوء الفهم و حل الإشكالات المطروحة، ففي الأسرة المثالية، يشجع كل فرد على التعبير عن آرائه و مشاعره بحرية دون قمع و لا إقصاء، مع الإستماع لهذا التعبير بإنصات كبــــيــــــــــر وإحتـــــــرام كثـــيـــــــر، في لحظته لكي لا يتحول لا قدر الله إلى مؤشر ضغط خطـــيـــــــر، يحطم بسببه البناء الأسري بالكـــامل و تتهـــاوى معه كل تلك الأحلام و الأهذاف التي رسمت بتدبير الخالق و برغبة و أمــــالــــي المخلوق.
*) الدعم العاطفي و التشجيع:
الأسرة المثالية توفر الدعم العاطفي لأفرادها في أوقات الفرح و الحزن على حد سواء، بحيث يشجع الأبوين بعضهما البعض بداية، ثم أبناءهما على تحقيق طموحاتهم، بكل حب، مع تقديم الدعم اللازم لمواجهة التحديات الخارجية التي قد تعترض سبيل إنجاز ذلك، بإيمان و يقين أكيدين بأن هذه المساعدة لا تجرد لا الزوج و لا الزوجة و لا هؤلاء الأبناء(ذكر أو أنثى) من إنزال أفكارهم على أرض الواقع بكل عقلانية و رصانة و حكمة و واقعية و خاصة: إلزامية حضور هذه الواقعـــيــــة، التي لا يمكن أن تتحدد دون إتفاق الآباء(أب و أم) على صيغتها العملية، و أسلوبها الممنهج ليتمكنا من الوصول إلى تلك النتائج المتوخاة و المرجوة بعون الله.
*)التوازن بين المسؤوليات و الحقوق
في الأسرة المثالية:
لتحقيق هذا المرمى السامي و النسبي، يتعين على كل فرد من أفراد الأسرة أن يتحمل مســـؤولـــيـــاته و واجـــبـــــــاته بالكامل بجدية و إنضباط، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، مع إحترام مفروض لحقوق الآخرين و حرياتهم، هاته الأخيرة التي تتوقف عند بداية حرية الأخر، كفرد مجتمعي و كطرف مؤسس لهذه الأسرة التي بدورها يجب أن تتقيد بالقيم النبيلة و الأخلاق السامية، المترفعة عن الشوائب المسيئة لهذا البناء، خاصة بإحترام حضورنا الإنساني الراق الذي يجب أن "يفلتر" كل المعطيات الخارجية، لكي لا تؤثر هذه الأخيرة، على المنحى العام لتوجه أسلوب حياة هذه الأسرة، فهذا التوازن العقلاني يساعد على بناء شخصية مستقلة و مسؤولة لدى الأبناء: مسؤولي المستقبل و رعايا الوطن و كل المجتمع الإنساني.
*)غرس القيم الأخلاقية و الدينية:
تلعب الأسرة دورا أساسيا في غرس القيم الأخلاقية و الدينية لدى الأفراد: فالأسرة المثالية تعلم أبناءها الصدق و الأمانة و التسامح و إحترام الإختلاف و خصوصية الآخر و تجنب الخيانة و الكذب و الخداع، مع تشجيعهم على الإلتزام بالقيم الإنسانية السامية و الراقية التي يجب أن تعمل على تعزيز هذه الفضائل، لتفادي إصطدامات و مفاجآت المسقبل، التي قد تتسرب عن طريق المكتسب من المجتمع أو المحيط الخارجي(البيئة المحيطة)، الذي غالبا ما يسعى إلى تغيير مسار مبتغيات و أهداف التربية الداخلية للأسرة، بمؤثرات الهوية الحاكمة(الدينية أو السياسية أو الإجتماعية)إن لم نكن حازمين و يقظين و فطنين بها، من خلال تمنيع مكونات هذه الأسرة بما يلزم من غربلة تلك المعطيات الدخيلة بحكمة و روية و رزانة و عقلانية.
*) التحديات التي تواجه الأسرة المثالية و كيفية التعامل معها:
رغم السعي الدائم لتحقيق طابع المثالية، تواجه الأسرة بصورة عامة تحديات عديدة مثل: الضغوطات الإقتصادية، صراع الأجيال، تأثير التكنولوجيا الحديثة و قواعد الهوية الحاكمة(أكانت سياسية أو دينية أو إقتصادية أو إجتماعية).
و للتعامل مع هذه التحديات، يمكن للأسرة أن:
**) تنتزع في ظل الإنشغالات اللامحدودة و الكثيرة وقتا يوميا لجلسات عائلية لخلق نقاشات حضارية توطد و تعزز الروابط بين أفرادها لتمتين وشائج التواصل و الحضور الفعلي لهذه العلاقة الداخلية، و التي ستؤثر إيجابا على منحى التوجيه و التصحيح في حالات مطبات الخطأ، في بداياتها قبل تعميق حضورها و إستفحال نتائجها.
**) تضع حدودا واضحة لإستخدام أجهزة التواصل التكنولوجي لتعزيز التواصل المباشر، الذي يمتن آصرة الحضور الإنساني الحقيقي و الفعلي(التعبير عن الحب بصورة دائمة لكي لا يموت و يعوض بالآلية أو الضغينة أو اللامبالاة، التي تحكم على العلاقة الأسرية بالفشل و الموت البطيء).
**) تدير مواردها المالية بحكمة لتقليل الضغوطات الإقتصادية التي كثيرا ما تتسبب في تصدعات داخلية بصورة مستمرة و نزاعات سلبية تؤثت العلاقة الداخلية بدل لغة الإحترام و الحب و المودة و الرحمة و التقدير و التكافل و الإنصات و الحوار الحضاري، الذي أسست أصلا به و من أجله هذه العلاقة الإنسانية.
**) أن تعتمد أسلوب الحوار المفتوح لحل الخلافات بين الأجيال و عدم إقحام الأطراف الغيرية كعائلات الأسرة من الجهتين(عائلة الزوج أو الزوجة) أو أصدقاء سلبيين أو حقودين، مما يساهم في تعميق هوة الخلاف، و يزرع الضغينة و التموقف السلبي، بدل ذلك التقبل المؤطر بالحب و الإحترام و التقدير المعبر عليه دائما، من خلال سلوكيات و تصرفات و حركات تسهر على تغذية تلك العلاقة، لتصليبها و تقويتها و تمنيعها ضد أي تسرب او إختراق خارجي سلبي و موجع و مميت لعروق وشائجها.
3)النتائج الإيجابية للأسرة المثالية:
الأسرة المثالية تنتج أفرادا يتمتعون بالثقة بالنفس و الإلتزام و الإنضباط و القدرة على المساهمة في بناء مجتمع إنساني متحضر و راق، فهؤلاء الأفراد يصبحون نواة للتغيير الإيجابي في مجتمعاتهم، حيث ينقلون تلك القيم و الأخلاق النبيلة التي تربوا عليها إلى الجيل الموالي.
إن بناء الأسرة المثالية، و إن كان أمر تحقيق ذلك يبقى نسبي، يتطلب جهدا مشتركا من جميع أفرادها، وهو عملية متواصلة و مستمرة، بحيث تتطلب الحب الكبــيـــــر و الصبر الكثــيــر، و الإلتزام الرشيد و العقل السديد، لأنها ليست مجرد هدف فردي، بل هي مسؤولية جماعية: أسرة و مجتمع و إعلام و برنامج تربوي و تكويني و قوانين منظمة، فكل هذه العوامل تساهم في إستقرار المجتمع و إزدهاره، لذا، يجب أن نعمل جميعا على تعزيز قيم الأسرة المثالية لتحقيق مجتمع قوي و متماسك و ممنع ضد كل القوى الذخيلة، التي إكتست تمظهرات كثيرة في وقتنا الراهن بسبب كل هذه العوامل الخارجية المؤثرة بكل سلبـــيـــاتها، و التي تخدم أجندات سياسية خارجية كبرى، تتداخل خيوطها فيما بينها و تسعى مع كامل الأسف إلى خلق نموذج البروتوتيب للمواطن المهزوم و المنكسر، ذاك المستهلك الرتيب و المنفذ الأعمى لكل الإملاءات الخارجية دون تمحيص للعقل و لا إستخدام للفكر.