عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

بقلم الدكتور رشيد ظريف : تذكرة من القرآن في أن الدين واحد مع ذكر بعض التحريفات التي لحقت فهم نصوصه

بقلم الدكتور رشيد ظريف : تذكرة من القرآن في أن الدين واحد مع ذكر بعض التحريفات التي لحقت فهم نصوصه



بسم الله الرحمن الرحيم 
تذكرة من القرآن في أن الدين واحد
مع ذكر بعض التحريفات التي لحقت فهم نصوصه
سنحاول بتوفيق من الله عز وجل التذكير بما جاء في القرآن الكريم من أن الدين عند الله واحد، ولا وجود لتعدد الأديان، وفي سبيل التوضيح سنعمل على إبراز بعض التحريفات التي لحقت فهم وتفسير نصوص القرآن الكريم والتي أدت إلى فهم مغلوط عند المؤمنين به، إذ يقولون بتعدد الأديان، وهذا يظهر في عبارة الأديان السماوية أو الأديان التوحيدية. أو الديانة اليهودية أو المسيحية، فليست هناك أديان على الإطلاق بل هو دين واحد، والمتعدد هو الشرائع فقط.
إن القول بوحدة الدين واجب وأساس لا يمكن أن يكون المؤمن مؤمنا إلا إذا آمن به، وأن الاختلاف يتجلى فقط في التشريع حسب الشرائع الثلاث، الشريعة التي جاء بها موسى وشريعة عيسى والشريعة المحمدية. والقول بتعدد الأديان أو القول بأن هناك أديان سماوية أو توحيدية ثلاث هو كفر بالدين نفسه وتزوير وتحريف لما جاء به الدين ولما قرره الوحي.
 ولكي يتضح ذلك أكثر يجب الفصل بين كلمة الشريعة وكلمة الدين، فالدين واحد غير متعدد لكن لكل فريق شرعة ومنهاج يقول تعالى : "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" المائدة 48. فالدين يتعلق بالإيمان بوحدانية الله تعالى وربوبيته للعالمين ولا فرق في الإيمان بذلك بين متبعي الشرائع الثلاث فكلهم يؤمنون بربوبيته وألوهيته ووحدانيته وكلهم يؤمنون بأن الوحي يصدر عنه وحده ولا اختلاف في ذلك. كما يجب الإيمان بأنه لا فضل لأحد منهم على آخر إلا بقدر إيمانه الصحيح بنصوص الوحي وعمله الصالح طبقا للشريعة التي يتبعها، وقيامه بواجبه تجاه الإنسانية. وإن كان هناك شبهة عند أي من أصحاب الشرائع الثلاث على مستوى الإيمان، فذلك يستوجب تغييره بالعلم وبالتي هي أحسن يقول تعالى "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" العنكبوت 46. أما الحكم عليهم جميعا فهذا احتفظ به الخالق لنفسه ولم يجعل لأي كان السلطة ليحكم على غيره أو يعاقبه، لأنه في نظره منحرف الإيمان. فالعقوبة ارتبطت بالتشريع ولم ترتبط بالإيمان، لأن التشريع يحافظ على المجتمع الإنساني وهذا يستوجب تدخل السلطة الشرعية حتى لا تهتك العروض وتباح حرمات الناس.
إن أول تحريف والأخطر على الإطلاق، هو القول بتعدد الأديان. فالدين دين واحد كما أسسه إبراهيم عليه السلام. وإبراهيم هو الأب والنبي الجامع الذي يرجع إليه كل أهل الكتاب، وعندما سماهم بالمسلمين لم يكن يقصد فئة دون أخرى، والقول بتخصيص إسم المسلمين أن لأتباع الشريعة المحمدية، تغليط وتحريف، فيمكن اعتبارهم مسلمين من جهة انتماءهم لدين الإسلام عموما وليس من جهة كونهم هم وحدهم المسلمون. فما هو مصير أتباع موسى وأتباع عيسى قبل بعثة محمد، حسب اعتقادهم، هل كانوا مسلمين ثم نزع عنهم الاسم أم لم يكونوا مسلمين وفي الحالتين يظهر التناقض . ففي الحالة الأولى نتساءل كيف ومتى ولماذا أخذ منهم الاسم وفي الحالة الثانية يكونون خارجين عن ملة إبراهيم حتى قبل بعثة محمد وهذا لا يستقيم أبدا لأن المحرفين لا يمكن أن يقولوا ببطلان إيمان أهل الكتاب قبل بعثة محمد.
يقول تعالى :"ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا" النساء 125.
فالدين أن يسلم المؤمن وجهه لله ويتبع ملة إبراهيم. وعلى هذا تكون كل دعوة لأن يتخلى مؤمن عن اتباع شريعة معينة من الشرائع الثلاث ليلتحق بأخرى، تحت أي حجة سلوك وفعل مناقض تماما للدين ولما جاء به الوحي. بل يتماشى مع التحريف ويكرسه ويبث العداوة والفرقة بين أهل الكتاب.
 إن المؤمنين من أهل الكتاب من متبعي الشرائع الثلاث مأمورون بالتعاون على نشر الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين العالمين فهم يتحملون مسؤولية قيادة الناس جميعا نحو الخير والسلام بما آتاهم الله تعالى من العلم.
من هنا يمكن القول بأن أخطر تحريف لحق فهم وتفسير القرآن الكريم هو تخصيص أتباع الشريعة المحمدية بإسم المسلمين دون غيرهم، ويتبع هذا اعتبار الشريعتين السابقين منسوختين أو فاسدتين.
نأتي للتحريف الثاني وهو تحريف الكلمة وطمس حركتها وحيويتها فالحروف ذات حياة ومعاني خاصة تتزاوج لتنتج الكلمات والكلمات كذلك لتنتج المعاني العامة، وهي في أصلها حية وذات معنى مستقل ومتحرر عن الواقع وفي ربطها ربطا تعسفيا بواقع أو شيء خاص، تجميد لمعانيها الحية وقتل حيويتها وهذا التحنيط تم العمل عليه بطريقة ممنهجة ليتم طمس المعاني الأصلية الحية وتعويضها بمعاني مختلقة جامدة. فكلمة السماء مثلا ليست خاصة بالسماء التي تأتي مقابل الأرض وإنما أخذت السماء الإسم من سموها فكل ما سمى يمكن أن نطلق عليه سماء، كما أن كلمة القسورة تطلق على كل ذي بطش وقسوة سواء كان حيوان أو إنسان وليست إسما للحيوان المفترس الذي تطلق عليه كلمة الأسد كما فسر الكلمة المفسرون. ولتوطيد الربط بين الكلمات والأشياء أو الأحداث تم إبداع ما يسمى بالحقيقة والمجاز في استعمال الكلمة، بحيث أن الربط التعسفي بين الكلمة والشيء أو الحدث أو الشخص جعلوه هو الحقيقة والأصل، فكلمة قسورة عندهم يكون استعمالها حقيقة أن تطلق على الحيوان الذي يسمى أسدا، وإذا ما أطلقت على غيره فهو مجاز. وبهذا تصبح كلمة قسورة حكرا على الحيوان المسمى أسدا.
لقد أدى القيام بتحنيط الكلمة إلى الحد من مفعولها الإيجابي وطمس طاقة الكلمة وبالخصوص كلمة الوحي، لتصبح نصوص الوحي عبارات وكلمات جوفاء لا أثر لها في النفس، في مقابل ذلك يتم استغلال طاقة الكلمة في مجالات أخرى ولأغراض غالبا لا خير فيها، بحيث يتم استغلال طاقة الكلمة بالخصوص في التأثير على الإنسان واقتياده نحو أفعال واعتقادات تسلبه حريته وتوقعه في المحظور.
التحريف الثالث هو ربط الآيات القرآنية بأسباب النزول وجعل فهمها لا يستقيم إلا بفهم واقعة معينة، بحيث أصبح فهم كلمة الوحي الإلهي المطلقة المعاني المحفوظة من التبديل  تحتاج معرفة بواقعة مروية لا علم لنا بصحتها إلا ظنيا. وبالتالي أصبح الظني الإنساني يحكم الوحي المطلق، وهذا الإجراء الغرض منه الحد من حركية وحياة نص الوحي بحصر معانيه في وقائع خاصة .
التحريف الرابع لحق كلمة الغيب التي تعتبر موضوعا تناوله نص الوحي باستفاضة كبيرة نظرا لأهميته الكبيرة، لقد تم ربط عالم الغيب بما بعد الموت وهذا التحريف يجعل من الوحي كلام لا منفعة فيه في حياة الأشخاص الحالية، فإذا كانت الحياة التي نعيشها هي المدخل وهي التي تحدد الفالح والطالح في الامتحان فما الحاجة لنص يتحدث عن ما بعد هذه الحياة.
 يتم ذكر كلمة عالم الغيب في القرآن في مقابل عالم الشهادة والتقابل لا يعني الاختلاف الزمني بل بالعكس، فهذا عالم نشهده بحواسنا وهذا عالم نعلمه عن طريق الوحي الإلهي أو عن طريق البصيرة إذا ما تهيأت لذلك. أما عالم ما بعد الموت فليس غيبا لأننا نعلمه شهادة بعد الموت ولا يجوز تسميته غيبا فما سمي غيبا إلا لكوننا لا نشاهده وقد أخبرنا القرآن بأن الكافر يذوق عذاب الحريق في جهنم بعد موته والتذوق لا يكون إلا بالحواس والحواس لا تدرك إلا ما يشاهد. 
أما عالم الغيب الذي يتحدث عنه نص الوحي، فهو العالم الذي هو واقع حاليا ولكننا لا ندركه بحواسنا، لكننا مأمورون بالإيمان به والعمل طبقا له، وهو عالم حقيقي نعيشه بأنفسنا، وإذا ما التزمنا بما يأمرنا به الدين فإننا نحقق التطابق بين عالم الشهادة الحسي وعالم الغيب النفسي ويحصل السواء، وإذا ما أغفلنا طرف من الطرفين نكرانا أو إهمالا فإن ذلك يتبعه عدم التوازن والاختلال. 
فالله تعالى خلق من كل شيء زوجين بمعنى أن الإنسان يتكون من زوج وهو النفس والمرء أو ما يسميه القرآن أحيانا بالسائق أو النهى، ولا يستقيم الإنسان إلا بأن تكون له نفس سوية أو تسعى للسواء ونهى يسوقها في عالم الشهادة، وإذا ما حصل التوازن بينهما ينتج عنهما الشهيد وهو العمل والسلوك المشهود . يقول تعلى : "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد" سورة ق 21. فإذا ما تسلطت النفس على السائق الذي هو النهى فقد تجر صاحبها للطاغوت إذ تطغى عليه هو أولا ثم يتعدى طاغوتها إلى غيره حسب قدرته، وإذا ما تسلط النهى الذي هو التعقل على النفس وأصبح عقلا يعقلها ويحد من تطلعاتها للخير والسمو يصبح الإنسان مرتبط بالمادة أكثر واقترب من أعمال الشيطان، وفي الحالتين يكون الشهيد مشوه .
إذن فعالم الغيب، عالم مغيب عنا حسيا ولكننا نعيشه نفسيا وهذه هي خاصية الإنسان وهو التكريم الذي حضي به، ونصوص الوحي عندما تتحدث عن عالم الغيب فهي تتحدث عن عالم النفوس في الأغلب.
 إن إهمال موضوع النفس وعالم الغيب الذي نعيشه يؤدي إلى اعتبار الدين مجرد تشريعات لا فرق بينها وبين القانون الوضعي، لا علاقة لها بالإيمان بالغيب وبالتالي يتم طمس كل نصوص الوحي التي تتحدث عن النفس والغيب والتي هي أساس الدين. ولتكريس ذلك تم إنشاء معارف كان همها هو السيطرة على الدين بالعقل، وبالتالي يتحول الدين إلى آلة في يد الإنسان يسيطر عليها بعقله ويعدم عالم الغيب والاتصال به نفسيا، وهو منبع السمو والخير ويقتل النفس التي هي الواسطة إليه ليصبح الإنسان المتدين محصور في عالم الشهادة يحكمه العقل فلا يكون فرق بينه وبين غير المتدين.
لننظر الآن في نصوص الوحي من القرآن الكريم مستثمرين ما تقدم ومحاولين بتوفيق من الله عدم الوقوع في تلك التحريفات في فهمنا، لنرى هل يختلف هذا الفهم عما سبق ومدى تناسق الفكرة وأثرها الإيجابي في تقديم مفاتيح لقراءة نصوص الوحي والقرآن منها بالخصوص.
سنحاول النظر في السور القرآنية السبع الأولى من ترتيب المصحف الشريف. وقبل البدء نشير إلى أن السور القرآنية تتوفر على وحدة موضوعية برغم أن كل آية لها دلالة قد تؤدي الغرض منفردة، وهذا جزء من إعجازية نصوص الوحي، كما أن السور في مجملها أو بعضا منها تتوفر على وحدة موضوعية متناسقة ولا يمكن فهم بعضها إلا في وضعها العام، بالإضافة إلى ذلك تشكل بعض السور وحدة موضوعية عامة. لهذا علينا تجاوز النظرة التجزيئية لنص القرآن الكريم، وفهم كل جزء منه على حدة دون الاستعانة بالوضع والمقام. إن النظر لنصوص القرآن الكريم منفصلة لا وحدة تربط أجزاء السورة ولا رابط بين السور يؤدي إلى النظر إلى تكرار بعض القصص أو الوقائع أو الأحكام في مرات متعددة وفي سور مختلفة، على أنه حشو وتكرار لا فائدة منه، والوحي منزه عن ذلك تمام التنزيه. 
كما نشير إلى أننا سنقوم بإشارات لتكون بمثابة منارات للقارئ توجهه لفهم واستيعاب الفكرة العامة من هذه التذكرة، لأن المقام لا يتسع للتفصيل، وقد يأتي التفصيل والتدقيق مستقبلا إنشاء الله تعالى.
أول سورة من سور القرآن الكريم هي الفاتحة، وهي عبارة عن دعاء شامل يجمع بين الحمد والاعتراف بشمولية الألوهية والتذكير ببعض الأسماء الحسنى التي هي السبيل لمعرفة الله تعالى، فنحن لا نعرف ذاته سبحانه وتعالى ولكن نرى تجليات أسماءه الحسنى، وفي آخر الدعاء يدعو المؤمن في هاته السورة بالهداية إلى الطريق المستقيم وأن لا يكون لا من المغضوب عليهم ولا من الضالين.
 أول تحريف هنا طال تفسير السورة التي لا تحتاج لتفسير لأن كلماتها واضحة وجلية، هو ما ذهب إليه المفسرون من أن المغضوب عليهم هم اليهود والنصارى هم الضالين وأصبح هذا الاعتقاد عند المؤمنين بالقران بمثابة مسلمة غير قابلة للنقاش.
 وحجتهم قوله تعالى عن اليهود: "وباؤوا بغضب من الله" آل عمران 112. وقوله تعالى عن النصارى: "قد ضلوا وما كانوا مهتدين" الأنعام 140. وقد قاموا بتعميم نتيجة فعل معين لأشخاص معينين من اليهود أو النصارى على الباقيين مكانا وزمانا وهذا جهل ليس بعده جهل لأن القرآن نفسه يقول عن أتباع موسى: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" الأعراف-159. وهو كذلك، أي القرآن، يقول بأن من أهل الكتاب مؤمنون صالحون يقول تعالى:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون ءايات الله آناء الليل وهم يسجدون يومنون بالله واليوم الاخر ويامرون بالمعروف ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين" آل عمران 113-114 
فهؤلاء المفسرون اتخذوا القرآن عضين كما أخبرنا عنهم سبحانه وتعالى يؤمنون ببعضه ويكفرون بالبعض الحجر-91 
وهذا التحريف الغرض منه التفريق بين المؤمنين من أهل الكتاب وطمس الغرض الذي أنزل من أجله الدين وهو التعاون فيما بينهم على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ننتقل إلى سورة البقرة وهي السورة الثانية في ترتيب المصحف الشريف. نجد قسم كبير من هاته السورة يتناول الحديث عن بني إسرائيل، يسرد تكريم الله لهم ويذكرهم به ويسرد عليهم كذلك الخروقات والعصيان الذي نتج عن بعضهم أو أغلبهم. فإذا كانت شريعة محمد الذي أوحي إليه القرآن تنسخ الشرائع السابقة كما يقول من ينسبون نفسهم لشريعته، فإن الحديث بالتفصيل عن بني إسرائيل يكون عبثا ويكون من الازم التصريح ببعض الكلمات عن نسخ شريعة موسى وينتهي الحديث عنها. 
إن الحديث في أول سورة باستفاضة عن اليهود يكون الغرض منه حسب فهمنا هو تذكير بني إسرائيل من خلال القرآن الذي لا يختلف مع التوراة بل هما من أصل واحد ويدعوان لطريق مستقيم واحد، والمؤمن لا يفرق بين الكتب التي نزلت وحيا من الله فالذي يفرق بين الكتب والرسل كافر بالدين. 
إذا ما نظرنا إلى المواضيع التي تناولتها سورة البقرة نجد بالإضافة إلى أحوال بني إسرائيل جاء ذكر إبراهيم عليه السلام وذكر الأنبياء من ذريته مع ذكر اختلاف قبلة النبي الجديد محمد صل الله عليه وسلم، بالإضافة إلى ذلك من المواضيع التي عالجتها السورة باستفاضة مسألة الإنفاق في سبيل الله وترك الشح.
وهذه المسالة تأتي تذكير لبني إسرائيل وتنبيه لأتباع الشريعة المحمدية الجديدة من أن يسرفوا في اتباع المادة وتحصيلها. فبنو إسرائيل اختصهم الله تعالى بالحكمة والعلم، والإسراف في استعمال العلم والعقل في تحصيل المنافع والمكاسب المادية الخاصة يقود إلى الربا والتعامل الربوي، ويأتي هذا التذكير لبني إسرائيل لكي يكفوا عنه ولأتباع الشريعة المحمدية حتى لا يقعوا فيه هم كذلك. 
ويظهر لنا القرآن استعمالهم للعقل لتبرير التعامل الربوي يقول : ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا" لكنه في نفس الآية يذكرهم بأن الله أحل البيع وحرم الربا وهم أعلم بذلك ولو لم يكن بينهما اختلاف لما أحل الله البيع وحرم الربا، إذن فهم يعلمون عن طريق الوحي لكنهم يحتجون باستعمال عقلهم الخاص.
 وللتأكيد على ضرورة الالتزام فيما يتعلق بالتعامل المادي، نجد أن السورة في مطلعها ذكرت الإيمان بالغيب وربطته بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإنفاق، وفصلت بين إيتاء الزكاة التي هي حق الغير في المال الخاص، وبين الإنفاق عموما. إن علاقة بني إسرائيل بالمال أو المادة عموما كانت مشكل وسبب في خروقات شرعية ودينية كبيرة، فتعاملهم فيما بينهم وفيما بينهم وبين الناس عموما كان مصدر لعدم الرضى الإلهي . فالله سبحانه وتعالى منحهم الحكمة والعلم ليكونوا منارة وقدوة في الخير للناس عموما وليس لاستعمالها في تحصيل مكاسب مادية على حساب الغير والتفريق بين الإسرائيلي وغيره على اعتبار ما حباهم الله به من العلم. فمسألة التفريق بين الخلق وتفضيل بعضهم عن بعض كانت مدخلا لطمس ما جاء به موسى هدى ونورا للناس جميعا، وتعويضه بفكرة التفاضل، ومن تم إمكان أن يستغل الإنسان غيره. لهذا تذكر سورة البقرة بني إسرائيل بنعمة أن أنجاهم الله تعالى من قبضة وسطوة فرعون، والغرض أن لا يتحولوا إلى فراعنة هم أنفسهم وأن يلتزموا بما علمهم إياه موسى عليه السلام وأن يتأسوا به ليكونوا مناصرين للحق وللمستضعفين.
هناك مواضيع ذات أهمية تم ذكرها في سورة البقرة كلها تصب في اتجاه تذكير بني إسرائيل وتنبيه أتباع الشريعة المحمدية. وهنا لا يتم استبعاد أتباع شريعة عيسى فالجميع مذعوون لاتباع أوامر الوحي المتعلقة بالإيمان عامة، أيا كان مصدرها من الكتب الثلاث.
مما أصبح شائعا الاعتقاد به بين أتباع الشريعة المحمدية أن سورة البقرة جاءت لتفضح بنو إسرائيل وتفضح أعمالهم وأفعالهم.
 إن نصوص الوحي نصوص عامة للناس وهي عندما تتناول قصة قوم معين أو تتحدث عن أتباع شريعة معينة فالغرض منها التنبيه والاعتبار وليس الفضح، ولكي يتم تنبيه المؤمنين بالدين عموما كان الأولى الحديث عن أتباع موسى لأنهم أول المؤمنين زمانا ولأنهم اختصوا بالحكمة والعلم، فهم أولى لأن تكون قصتهم عبرة ولا يتعلق الأمر بأنهم الأكثر كفرا، فالحديث عن بني إسرائيل في القرآن، يعني أن أهل الكتاب لا ميزة لهم عن باقي الخلق، وبنو إسرائيل مجرد نموذج، فمتى أحسنوا فقد آمنوا ومتى أساءوا وجب عليهم العقاب، وهذه رسالة لمن يؤمنون بالقرآن الذين هم بدورهم وقعوا في ما وقع فيه بعض أسلافهم من أهل الكتاب، حيث أخذوا يقارنون بين أنفسهم وغيرهم ليعطوا الأفضلية لأنفسهم على حساب غيرهم من أهل الكتاب، وهذا التفاضل بين الخلق فيما بينهم هو ما جاء الدين لينفيه أصلا.
السورة الثالثة هي سورة آل عمران، ومن الإسم يتضح أنها ستذكر عيسى عليه السلام ووأتباعه، لكنها لا تقتصر على ذلك فقط بل تتعداه، ولكن الموضوعات تبقى مترابطة فيما بينها، وهذا نجده حتى في ذكر سورة البقرة لبني إسرائيل. فهناك ذكر لموضوع السورة بالأساس وع ذكر مواضيع مختلفة، لكن بالتدقيق والتبصر نجد أن المواضيع المختلفة يجمع بينها رابط في مقامها في السورة.
بالنسبة لسورة آل عمران افتتحت بذكر التوحيد "الله لا إله إلا هو" . ويأتي هذا التذكير في مطلع السورة نظرا لكون ما افتتن به أتباع شريعة عيسى هو مساءل توحيدية، بحيث أن مسألة الخلط بين كلمة الله وروح القدس وعيسى أدى إلى متاهات كان أولى في هاته السورة تذكير أتباع شريعة عيسى للرجوع بها إلى حقيقتها، وتنبيه أتباع الشريعة المحمدية حتى لا يقعوا فيها مع نبيهم أو غيره من الأنبياء. كما أن السورة تناولت مساءل أخلاقية نظرا لكون أهم ما ميز شريعة عيسى هو التربية على مكارم الأخلاق وتذكر بما جاء به عيسى. فجزء كبير من السورة يتحدث عن دور التربية الأسرية وعن الاهتمام بالذرية. كما أن ذكر قصة مريم عليها السلام يؤكد على أن هناك فرق بين الذكر والأنثى في التكوين الجسمي والنفسي، ولكن لا فرق بينهم في قبولهم عند الله وأن يرفعهم بأعمالهم الصالحة فمريم  أنثى وقد سمت سموا كبيرا عند الله بعملها حتى أصبحت آية للعالمين.
وجدير بالذكر أن القرآن حينما يذكرنا بأن الذكر ليس كالأنثى على مستوى التكوين يشير إشارة خفية وبليغة إلى مسألة تكوين الأسرة التي هي أساس التربية الحسنة وأن هذا الاختلاف هو أساس التكامل وليس التفاضل، فالتفاضل يكون عند الله بالعمل والتكامل يحصل بالتعاون بين المختلفين.
تأتي الآية 74 لتبين أن أهل الكتاب منهم من مازال ملتزما بالأخلاق التي علمها إياهم عيسى ومنهم من تنصل منها ويظهر هذا الالتزام في تعامل الكتاب مع غيره تقول الآية "ومن أهل الكتاب من إن تامنه بقنطار يوده إليك ونهم من إن تامنه بدينار لا يوده إليك إلا مادمت عليه قائما" فالمؤمن بالدين لا يفرق في تعامله بين الناس بل عليه أن يلتزم حسن الأخلاق مع الجميع.
 ذكرت السورة كذلك موضوع وحدة الرسالات بصيغة قريبة جدا من التي ذكرت في سورة البقرة. آية 83. كما حسمت موضوع وحدة الدين في الآية 63 يقول تعلى : "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا تعبدون إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباب من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" وما يؤكد أن إسم الإسلام غير مختص بأتباع الشريعة المحمدية هو قوله تعلى اشهدوا بأنا مسلمون بمعنى أننا مسلمين من بين المسلمين، فلو كانوا وحدهم المسلمين لقال اشهدوا بأننا المسلمون أو يقول اشهدوا بأننا نحن المسلمون .
أما السورة الرابعة فهي سورة النساء وتفتتح بقوله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام". والأرحام هنا أرحام الإنسانية عامة، إذ أنها جاءت بعد ذكر النفس التي هي أصل الإنسانية والخطاب موجه للناس أجمعين.
مباشرة بعد هذه الآية تأتي الآية الثانية التي تتحدث عن اليتيم تقول الآية: "وآتوا اليتامى أموالهم" . فاليتيم هنا رمز للشخص الضعيف ورمز لذي الحقوق على غيره سواء كانوا أفرادا أو جماعات. 
فوجود اليتيم يستوجب حقوقا على غيره، حقه في الكرامة وحقه في صيانة ممتلكاته وحقه في الدفاع عنه نفسا وعرضا.
وهذا هو المغزى من كون سورة النساء تناولت موضوعين يظهران متباعدين وهي مواضيع النساء والنكاح والزواج والإرث وما إلى ذلك من الأحوال الأسرية الخاصة، وموضوع الجهاد والدفاع عن الحرمات وعن المستضعفين، يقول تعالى: " ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا" آية 75.
وبطبيعة الحال فإن التشريع لا يستقيم إلا إذا تماشى مع طبيعة المشرع لهم. أما الدين فهو عام لا اختلاف فيه . فالتشريع لبني إسرائيل يركز على طرق استعمال العلم والحكمة ولا يغفل الجوانب الأخرى وذلك نظرا لكون الله تعالى فضلهم بالعلم والحكمة، والتشريع لأتباع عيسى عليه السلام يركز على الأخلاق لكون الله تعالى قد حباهم بحسن الخلق واللين في التعامل ودعاهم ليكونوا قدوة في مكارم الأخلاق دون إغفال الجوانب الأخرى، وهم أقرب لذلك بالطبيعة والفطرة التي منحهم الله. أما أتباع الشريعة المحمدية فقد حباهم بالقدرة على الجهاد واستعمال القوة في والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك ركز في التشريع لهم على مسألة استعمال القوة لكي لا تتحول لبطش وغزو بل يجب أن تقتصر على الدفاع عن المستضعفين وأن تلتزم بما شرعه الله حتى لا تصبح غاية في ذاتها، أو تتحول إلى آلة قاتلة في يد السلطة المادية.
وعلى هذا، فإن القرآن لا يشرع الجهاد إلا للدفاع عن النفس أو نصرة المظلومين المقهورين، ومن يحتج بكلمة الفتح ونشر الدين فإن الفتح يكون بالكلمة وليس بالسيف، فما من نبي أو رسول أرسله الله تعالى لقومه يحمل سيفا ويجر وراءه الجنود، بل كل الأنبياء والرسل كان سلاحهم كلمة الحق. أما الغزو واستعمال العنف مع الغير دون مبرر مما ذكر فهو سلوك لا علاقة له بالدين .
وبالتالي فإن السور الثلاث بعد السورة الأولى التي هي الفاتحة، تكون تناولت مواضيع عدة لكن كل واحدة ركزت على موضوع معين .
فسورة البقرة ذكرت البقرة التي أسرف بنو إسرائيل في طرح الأسئلة عنها حتى أنهم كادوا أن لا يفعلوا ما أمروا به جراء محاولتهم معرفة التفاصيل الدقيقة. وآل عمران تناولت الأخلاق التي يجب أن يربي عليها المؤمن أفراد أسرته بالأساس. وسورة النساء ذكرت أن الجهاد بالأساس شرع للدفاع عن النفس والحرمات والدفاع عن المستضعفين الذين قد تتعرض حقوقهم للهضم ويتم استعبادهم من طرف الطاغوت.
إلى حدود الآن يظهر أن السور تناولت مواضيع مختلفة كما ربطت كل موضوع إشارة وليس تصريحا بأتباع شريعة من الشرائع الثلاث، وبهذا فإن خير أمة أخرجت للناس هم أهل الكتاب مجتمعين متكاملين متحدين متعاونين على البر وليسوا متفرقين أو أن خير أمة هي فئة معينة منهم دون الباقين.
السورة التالية والخامسة هي سورة المائدة، وتناولت مواضيع المحرمات والمباحات من المأكولات والمشروبات وغيرها، وأكدت على أنه على كل أصحاب شريعة أن يلتزموا بتحكيم شريعتهم في أمورهم الخاصة.
 أما السورة التي تليها فهي سورة الأنعام وهي السورة السادسة في ترتيب المصحف وقد ذكرت مواضيع تتعلق بالأنعام وأكلها وتحريم الشرك بالله في الذبح أو التقرب لغير الله بالذيبحة، كما ركزت على عدم تحريم ما أحل الله والقول بغير ما يقول به وأقرت الاختلاف في التشريع بين الشرائع فيما يتعلق بالاستفادة من الأنعام ولحومها وشحومها.
بخصوص سورة المائدة وسورة الأنعام تم التركيز على المحرمات والمباحات لأتباع الشريعة المحمدية وتم التركيز بالأساس على أن لا يتم تحريم ما لم يحرمه الله تعالى تحت أي حجة كانت. كما أشارت السورتين إلى الاختلاف بين الشرائع الثلاث ليبرز لنا القرآن بأن الوحي الإلهي قد خص كل أتباع شريعة بخصائص فيما يتعلق بأحوالهم الخاصة.
ذكرت كذلك سورة الأنعام قصة إبراهيم عليه السلام وخروجه عن دين أبيه الوثني، وكيف حصل ذلك ليؤسس لدين توحيدي لا شرك فيه. ويأتي ذكر قصة إبراهيم في هاته السورة نظرا لكونها آخر سورة تتحدث عن الاختلاف بين الشرائع لتؤكد بأن الاختلاف ينحصر في التشريع أما الدين فهو واحد كما أسسه إبراهيم عليه السلام .
ويظهر هذا التأكيد في أواخر سورة الأنعام يقول تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء" 159 فالدين واحد ومن فرقه فقد كفر به. وذكر هاته الآية في أواخر سورة الأنعام والتي تليها سورة الأعراف، يؤكد ما نذهب إليه من أن السور ذات موضوعات خاصة وتأتي كذلك في سياق موضوع عام. فآخر السورة بمثابة ختام لما جاء في السور السابقة وبمثابة تهيئ المؤمن لما سيأتي في السورة التالية وهذا يظهر في الآية التي تقول: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا". 162-163 أما آخر آية فتقول : "هو الذي جعلكم خلاءف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم" 167. وهذه الآية تجرنا إلى موضوع الاستخلاف في الأرض والتفاوت في المراتب العلمية والمادية بين الناس، وما يتبعه من إقامة العدل وتطبيق حكم الله وتغيير المنكر وأن ذلك كله ابتلاء وهذا هو موضع سورة الأعراف بالأساس.
ننتقل الآن إلى سورة الأعراف وهي السورة السابعة في ترتيب المصحف الشريف، وفي هاته السورة يجد القارئ أن أسلوب السورة يختلف عن السور السابقة بحيث ينتقل من فضاء إلى فضاء مغاير تماما أسلوبا ونظما وكلمات وآيات .
فسورة الأعراف أول سورة يتم سرد قصص الأمم السابقة البائدة فيها، فما الغاية من سرد قصص الأمم السابقة في هذه السورة؟ ولماذا سميت ب "الأعراف"؟ ومن هم أصحاب الأعراف؟ وهل هناك موضوع عام تعالجه آيات السورة في جملتها؟ 
إذا كنا قد اختصرنا القول في السور السابقة واقتصرنا على إعطاء إشارات تبرز بشكل واضح ترابط مواضيع السورة فيما بينها وترابط موضوع السورة مع غيرها، فإننا سنحاول الاستفاضة أكثر في هاته السورة بغرض توضيح ما أخذنا على عاتقنا توضيحه.
عندما ننظر في بداية السورة نجد أنها تركز في أول آية على مسألة الصدع بالحق دون حرج. يقول تعالى في بداية السورة موجها الخطاب إلى النبي الكريم وبالتالي للمؤمنين بالوحي عموما: (المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) آية 1-2 . فالهدف الأساسي حسب الآية من إنزال الكتاب هو الإنذار والتحذير، فمن يجب عليه الإنذار؟ وتجاه من؟ وما موضوعه؟ ولماذا تحدث تعالى عن الحرج في هذا الموقف بالذات؟ وما هو مصدر الحرج؟
الآية التالية توضح مصدر الحرج بصورة واضحة، يقول تعالى: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) آية 3. وهذا يفيد أن الحرج يأتي من الولاء لأصحاب السلطة، فالشخص الذي يوالي السلطة تضعه موالاته في حرج من أن ينطق بكلمة حق في وجه السلطة. لأن السلطة تسعى دائما إلى فرض السيطرة بكل الطرق وهذه طبيعتها، ولذلك فالسبيل لعدم الوقوع في الحرج من قول الحق هو عدم موالاة سلطة الأشخاص أو سلطة المؤسسات بأي شكل من الأشكال، فالمؤمن بالدين يوالي ربه دون غيره.
فمن هم الأفراد الذين ملزمون بالصدع بالحق في وجه الطغاة وعدم الموالاة والسكوت على ما يرتكبونه في حق الضعفاء؟ إنهم أهل الكتاب ورثة الأنبياء كما حددت ذلك الآية الأولى.
بعد ذلك تتحول آيات السورة إلى الحديث عن عاقبة الأمم التي تجبرت في الأرض فأهلكها الله تعالى، (وكم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ") آية 4. وتبتدئ رواية قصص السابقين بقصة آدم الذي تكبر إبليس عن السجود له، فعصى أمر ربه الذي منحه حرية الاختيار، لتصبح الحرية بالنسبة له غاية في ذاتها دفعته للاعتداد بنفسه، وإبراز حريته ضدا في القانون الذي فرضه عليه مانح هذه الحرية. فلما سأله ربه تعلى عن سبب رفضه السجود لآدم مع الملائكة أجاب قائلا:(أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) آية 12. وهذا كان أول استعمال للمعرفة والعقل بطريقة منحرفة، فمعرفة إبليس بخلق آدم من طين وخلقه هو من نار واستعماله لعقله الخاص دفعه للقيام بالمقارنة بينه وبين آدم عليه السلام ومن ثمة التفضيل، وذلك كله من تلقاء نفسه، دون سند أو علم من الله تعالى. نتذكر هنا أن قصة آدم ذكرت في سورة البقرة وكان الذكر هناك إشارة إلى بني إسرائيل وغيرهم من أهل الكتاب بأن الاعتداد بالمعرفة والتعقل دون استحضار الإيمان بالله يقود إلى كشف سوءة الإنسان التي لا يمكن سترها إلا باستعمال العلم جملة فيما هو خير. 
إن مسألة أكل آدم من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن الاقتراب منها تظهر بشكل واضح كيفية التعامل من العلم عموما ومع كلمة الوحي، فالكلمة في سورة إبراهيم شبهها الله تعالى بالشجرة وهي شجرة المعرفة والأكل منها له معان متعددة كلها تصب في نفس الاتجاه، فالأكل يعني احتكار المأكول والاستفادة منه للمنفعة الخاصة وهذا يفسره قوله تعالى : "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " فأكل ثمن شجرة العلم يكون عن طريق كتم المعرفة من طرف العالم وعدم إظهارها والعمل بها. ولهذا قال تعالى فأكلا منها ولم يقل فأكلا من ثمارها، لأن الأكل من ثمار شجرة العلم جائز بينما يحرم الأكل منها هي نفسها. وقد كان المحرض والمشجع لآدم وزوجه على ذلك هو الشيطان الذي يرمز للعقل ويعتمد عليه في التضليل. وظهور السوءة يعني أنه بإخفاء العلم وعدم العمل به يصبح الإنسان مشوه وتظهر عيوبه ولا يتم تجاوز ذلك إلا بالتوبة كما فعل آدم. وآدم هنا كناية عن الإنسان أيا كان من بني آدم، كما أن زوج آدم كناية عن نفس الإنسان التي هي زوجه الملازم له ضرورة.
بعد قصة آدم وإبليس وذكر تفاصيلها، ينتقل تعالى إلى تذكير المؤمنين بأنه ليس محرما عليهم الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا والطيبات من الرزق، بل إن المحرم هو الإسراف الذي يؤدي إلى ظهور الفواحش والإثم والبغي في المجتمع. (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) آية 31-32 وهذا التذكير في هذا المقام ينفي كل ربط بين الدين والتقشف أو التفريط في العيش الكريم بل إن المرغوب هو خلق التوازن فقط .
مباشرة بعد ذلك تنتقل آيات السورة إلى وصف مشهد من مشاهد الحوارات التي تدور بين الكفار فيما بينهم، وبين الكفار وهم تحت العذاب وبين المؤمنين وهم في الرحمة.
وفي خضم هذه الحوارات تأتي الآية 46 لتخبرنا بأنه يوجد بين أصحاب النار وأصحاب الجنة حجاب، كما توجد "الأعراف" وعلى هذه الأعراف يوجد رجال، تقول لآية (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أية 46 ويتميز هؤلاء الرجال بميزتين أساسيتين: الميزة الأولى هو أنهم لم يدخلوا بعد لا الجنة ولا النار وهم يطمعون في دخول الجنة، والميزة الثانية هي قدرتهم على معرفة وتمييز كل فريق من الفريقين، فهم يعرفون أصحاب الجنة بسيماهم ويعرفون أصحاب النار بسيماهم. فمن يكون هؤلاء الرجال المتواجدين على الأعراف والذين لهم قدرة على إدراك السمات والعلامات.
الأعراف في اللغة تدل على معنيين اثنين، الأعراف: الأشياء المرتفعة، فعرف الشيء ما ارتفع منه، وبالتالي فالأعراف بمثابة العلامات والأدلة الموجهة، أما المعنى الثاني فله علاقة بما هو اجتماعي، فعندما يوصف الشخص بأنه من أعراف المجتمع فهذا يعني أن له مكانة معلومة وذا حضور اجتماعي.
إن ما يجعل من التفسير الذي يقول بأن أصحاب الأعراف أشخاص تساوت حسناتهم مع سيئاتهم غير معقول وتحريف لمعاني النص الموحي، هو الآية التي تأتي في مقدمة السورة والتي تقول: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) لم تذكر الآيات الأشخاص الذين تساوت حسناتهم بسيئاتهم، الشيء الذي يجعل من مسألة استواء الحسنات بالسيئات في هذا المقام أمرا مستبعدا لأن القرآن كتاب محكم فكيف يذكر أشخاص مجموعين ثم يذكر نتيجة البعض ويغفل البعض.
فما الغاية من ذكر أصحاب الأعراف وهم في حالة انتظار وجهل بالمصير في هذه السورة؟
 إن أصحاب الأعراف أناس أكرمهم الله تعالى بالعلم والمعرفة، ومنحهم القدرة على تمييز الحق من الباطل عن طريق إدراك العلامات / الأعراف، وكانوا هم أنفسهم بمثابة أعرافا في المجتمع لهم مكانة اجتماعية علمية أو غيرها، ولكنهم لم يشكروه على هذه النعمة، إذ لم يقوموا بما يستوجبه عليهم واجب العلم والمكانة المتميزة من توجيه وإرشاد وتغيير للمنكر، فكان جزاؤهم أن يعيشوا على أقبح جهل، إنه جهل المصير الشخصي، لقد جحدوا نعمة الله وكتموا الشهادة فعوقبوا بالانتظار. لقد شاهدوا في الدنيا المستكبرين يمارسون الطغيان والمستضعفين يتألمون، وكانوا يعرفون أن ذاك ظلم وطغيان وإسراف، ولكنهم لم يواجهوا هذا الظلم والإسراف بالبينة لتغيير المنكر، فهاهم في الآخرة يشاهدون نعيم المؤمنين وعذاب الكافرين دون أن يستطيعوا الالتحاق لا بهؤلاء ولا بهؤلاء. ودون أن يعرفوا مصيرهم الأخير، إنهم يقومون بالمشاهدة جبرا لأنهم كتموا الشهادة طواعية.
يقول تعالى :( وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) آية 48 لقد أعلنوا شهادتهم في حق المستكبرين ولكنها جاءت متأخرة، فالواجب أن هذه الكلمة كانت تقال في الدنيا وليس بعد أن قضي الأمر وأصبح المستكبرون في جهنم يعذبون. لكنها شهادة كذلك على أنهم كانوا يدركون استكبار الطغاة ولم ينكروه ، إنهم يشهدون على أنفسهم بكتمان الشهادة وقت الحاجة إليها.
إن تفسير كلمة الأعراف بأنه جبل فاصل بين الجنة والنار هو تحريف للنص الديني الموحي والتهرب من المسؤولية التي تفرضها المعرفة والعلم على العارف والعالم، إنها محاولة للتهرب من المسؤولية من طرف من يدعون الإيمان بالقرآن بطمس معاني النص الواضحة البينة.
 تقص علينا سورة الأعراف الطرق التي يلجأ إليها الطاغية لفرض سيطرته من خلال سرد قصص بعض الأقوام الذين رفضوا دعوة أنبياءهم، وفي نفس الوقت تذكرنا السورة بأن إنكار المنكر لا يؤدي إلى الهلاك بل إن من يهلك هم الطغاة إذا ما كان من يدعوا إلى تغيير المنكر صادق النية ويبتغي رضا الله، فكل الأقوام المنكرون للرسالات هلكوا، ونجى الله تعالى رسله وأنبياءه ومن تبعهم.
فقوم نوح كذبوا رسالته استخفافا بشخصه وهذا دأب كل سلطة متجبرة، بحيث تربط بين الشخص والرسالة، وتحط من قيمته بشتى الوسائل، وهذا الربط الهدف منه التنقيص من الرسالة علما أن الرسول لا يملك حق إنشاء رسالته بل هو مبلغ فقط ولا علاقة لشخصه بمضمون الرسالة.
 أما قوم هود فقد اعتبروا أن من يأتي بما يخالف ما كان عليه آباؤهم سفيه، لأن آباءهم أولى بالإتباع وهذه حيلة أخرى يتم العمل بها من طرف السلطة لتسفيه كل من يدعوا إلى ترك التقليد المحرف والرجوع للوحي الصريح، بحجة أن السابقين أولى بالفهم حتى وإن كان الفهم محرفا ظاهر التحريف، وتقوم بذلك عن طريق تجيش الجنود المختصين .
 أما قوم صالح فقد عمدوا إلى انتهاك المحرمات، فالناقة التي هي رمز للحرمة عقروها، علما أن الناقة هنا لا تستوجب أن تكون ناقة حيوان فقد تكون غير ذلك لأنه كما قلنا يجب علينا عدم الربط بين الكلمة وبين الأشياء لكي نفهم جيدا معاني نصوص الوحي. (هذا يتطلب مجالا أوسع للتوضيح)
 وهتك الحرمات هذا تنتهجه السلطة بحيث تعمل على تطبيع الأشخاص معه في مقابل حرمات تقوم هي بإنشائها تكون داعمة لها ولتسلطها، فالمجتمع الذي يألف هتك الحرمات يكون من السهل عليه تقبل هتك الأعراض والاستعباد وهضم الحقوق. 
أما قوم لوط فقد أسرفوا في اللذة والمتعة حتى أصبح دأب ذكورهم إتيان الذكور بدل الإناث وهنا يتدخل الإفراط في استعمال العقل وتغييب الأخلاق وحس الفطرة .
لقد قلنا سابقا بأن الإنسان يتشكل من زوج نفس ومرء أو نهى، وطبيعة النفس متطلعة وسامية إذا ما كان النهى الذي هو السائق  سليما وملتزما بحدود قيادته، ولا تقبل الاستعباد ولا السيطرة . ولكي تتسع رقعة عمل النفس يجب تطعيمها بالمختلف بمعنى يجب أن تكون في علاقة مع غيرها المختلف لكي يحصل التكامل وتعطي أكثر وتستقبل أكثر، أما إن اقتصرت على مثلها فإنها تضمحل وتذوب في مقابل سيطرة العقل. والسبيل  لتطعيم النفس هو التعارف والتلاقح مع الغير المختلف، وأهم نقطة هنا الزواج بالمختلف جنسا، لهذا في سورة أخرى أوضح القرآن بأن قوم لوط كانوا يقطعون السبيل، فهم يقطعون السبيل عن النفس بحصرها في مثلها وعدم تركها تتفرع وتنفتح على الغير، فنكاح المثلية لا يفتح أي أفق أبدا، بل يجعل الشخص منطوي يكتفي بلذة لحظية يهيئ لها نفسه عنوة.
لنتذكر هنا أن سورة آل عمران التي عالجت مسألة الأسرة والتربية ذكرت إشارة مهمة وهي قوله تعلى "وليس الذكر كالأنثى" في موضوع ولادة مريم عليها السلام، فكل كلمة تأتي في القرآن تكون لغاية وما علينا سوى البحث عنها مستعينين بالله تعالى، فذكر الاختلاف بين الذكر والأنثى تمت الإشارة إليه في سورة آل عمران في سياق الحديث عن الأسرة والتربية على مكارم الأخلاق، وفي سورة الأعراف وفي سياق الحديث عن الانحراف الأخلاقي الذي عرفه قوم لوط لم يكن من البلاغة ومن حكمة الخطاب العروج على مسألة الاختلاف بين الذكر والأنثى والحاجة لهذا الاختلاف في تكوين أسرة قويمة وبالتالي مجتمع سليم، لأن موضوع السورة عامة أكبر من ذلك وأعم والتفصيل الجزئي يفقدها الحكمة والاتزان. لكن علينا نحن أن نربط بين الموضوعات متى احتجنا للربط لنفهم أكثر شريطة أن لا يكون ربطا تعسفيا بل أن يتوفر على مقومات الربط السليم.
جدير بالذكر هنا أن امرأة لوط برغم من كونها امرأة كانت تناصر إتيان الذكور لبعضهم، وقد وصفها القرآن في سورة أخرى بأنها عجوز، وعجوز هنا تعني أنها عجزت عن السيطرة عن لوط عليه السلام، لأنه كان يمتلك نفسا سوية ولم تستسغ رفضه لسيطرتها في مقابل قابلية الآخرين من الذكور لذلك، فكفرت برسالته وناصرت المثلية حقدا منها على هاته الرسالة التي كانت سببا في عجزها عن فرض سيطرتها على لوط، وهذا يوضح أن المثلية مرتبطة بفشل النفس وانحصارها وقابليتها للسيطرة .
نذكر هنا موضوع أشار إليه القرآن الكريم مرارا وهو قتل النفس، فقتل النفس لا يكون دائما عن طريق قطع الرأس عن الجثة، وإنما قد يكون أحيانا عن طريق قطع السبيل بين النفس والمرء، وهنا نتذكر أن القرآن وصف السحر بأنه يقوم بالتفريق بين المرء وزوجه، والزوج هنا هي النفس، وهذا التفريق هو السبيل للإستعباد فمتى تم الفصل بين الإنسان ونفسه أصبح كالآلة يعمل بجسده وعقله ونفسه غائبة تماما. وقد يكون هذا التفريق بين المرء وزوجه التي هي نفسه، هو المهمة التي كان يقوم بها سحرة فرعون لاستعباد بني إسرائيل، لأنهم ذكروا أنه كان يجبرهم على السحر تقول الآية 73 من سورة طه: "إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى"
أما قوم شعيب فقد تعودوا تبخيس الناس أشياءهم والغش في الميزان ، وقد يأتي هذا السلوك تحت مسميات علمية بغرض إضفاء الشرعية عليه وتطبيع الأشخاص معه. 
بعد ذلك تتحول السورة للحديث عن قصة موسى وفرعون وقيام موسى بتحرير بني إسرائيل من قبضة فرعون، تم تسرد بعد الأحداث اللاحقة لمجتمعهم .
تذكرنا السورة بنموذج العالم الذي يتبع الحق، فهناك أشخاص ضحوا بمكانتهم من أجل قول كلمة الحق وكان هذا النموذج في العلماء من سحرة فرعون الذين أعلنوا شهادتهم لصالح موسى ضدا على فرعون رغم بطشه وتهديده. ولم تأتي شهادة هؤلاء العلماء من علمهم بأن هاته الشهادة تدفع فرعون إلى الإيمان برسالة موسى ولكنها جاءت من اقتناعهم بالصدع بالشهادة الواجبة دون النظر للنتائج. فقول الحق لا يستوجب التفكير في النتيجة، بل لأن الصدع بالشهادة واجب في حد ذاته دون اعتبار للمآلات (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) 164. فالإنذار والنقد لا يوجه فقط إذا كان مقبولا ومرغوبا ممن يوجه إليهم ويمكن أن يؤثر فيه بالضوروة، بل هو واجب ديني فرضه الله تعالى على كل من يملك الحجة والبينة على فساد الوضع دون اعتبار للآثار التي قد تنجم عنه. 
كما تذكرنا السورة بأنه من قوم موسى من كانوا مؤمنين حقا ولم يسكتوا عن المنكر بل هذا دأبهم ماضيا وحاضرا حسب الآية التي لا تحصر هاته الصفة في زمان بل ذكرتها على الإطلاق "وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ" آية 159. كما تذكر السورة أن السكوت عن المنكر يجر الجميع للهلاك سواء من يفعلون المنكر أو ممن لا يفعلونه لكنهم يسكتون عنه. 
وبعد نهاية الحديث عن بني إسرائيل يتحدث تعالى عن الخلق أجمعين فيقول: "وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ" آية 181. 
بعد الانتهاء من قصص السابقين وفور أن انتقل القرآن الكريم لتوجيه الخطاب إلى المجتمع الذي كان يعيش فيه الرسول محمد صل الله عليه وسلم، يأمره تعالى بأن يقص عليهم قصة الشخص الذي آتاه الله العلم بالآيات فانسلخ منها "اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ" آية 175-176. وهذا هو حال من آتاه الله العلم بالكتاب فكتمه واشترى به ثمنا قليلا.
إن سورة الأعراف لم تتحدث مطلقا عن الاختلاف بين الشرائع الثلاث ، بل جاءت لتظهر لنا أن ما تم بيانه في السور السابقة كان عبارة عن ضبط العلاقات فيما بين أهل الشرائع الثلاث حتى يكون لهم تشريع  ضابط لعلاقة بعضهم ببعض ومنهج يتعاملون به فيما بينهم  فيحترم بعضهم خصوصيات البعض الآخر، ليكونوا قادرين على تأدية المهمة الإنسانية التي أنيطت بهم مجتمعين متعاونين فيما بينهم .
فالأعراف هنا هم العلماء من أهل الكتاب الذين يمكنهم علمهم من إدراك حيل السلطة في سعيها للسيطرة، ومن إدراك الخطر الذي يتربص بالإنسان متى أعرض عن اتباع الوحي واتبع الهوى. 
 فأهل الكتاب أولى بالعلم من غيرهم بما يضر وينفع الإنسان، ولهذا فأتباع الأنبياء الثلاث مدعوون للقيام بواجب تغيير المنكر بما أوتوه من فضل الله، فبنو إسرائيل يملكون العلم والحكمة ويوظفونها في الكشف عن طرق وحيل استعمال العلم والعقل من أجل السيطرة على الإنسان باستعمالهم في السياسة والتجارة والاقتصاد وغيرها.
أما تغيير المنكر عن طريق الأخلاق فيظهر جليا في أن تكوين الأسرة السليمة التي ركزت عليها سورة آل العمران ومن ثمة محاربة كل الانحرافات الأخلاقية.
وفي حالة إذا لم تنفع الحكمة بحيث أنه تم التنبيه للحيل وفضحت وتم بعد ذلك التنبيه لمساوئ الأخلاق واستمرت السلطة في فرض سلطتها وفرضت غشها واستعبادها وفرضت كذلك مساوئ الأخلاق على المستضعفين عنوة، هنا يأتي دور تدخل قوة السيف لتحرير المستضعفين بالقوة، وهذه تكون آخر محطة وبعد استنفاد كل الإمكانيات وتعنت السلطة القاهرة. أما إذا كان الأفراد في رضى تام عن ما تقوم به السلطة فهذا شيء آخر.
 وهذا لا يستوجب تخصص كل فريق من أهل الكتاب بما اختص به فقط، بل يكون هو الغالب في عمله على تغيير المنكر، فأتباع موسى يجب أن يتسلحوا بالأخلاق والقوة المادية وأتباع عيسى يجب كذلك أن يتسلحوا بالعلم والقوة المادية وأتباع محمد كذلك يجب أن يعتدوا بالأخلاق والعلم. غير أنه يبقى أن كل فريق مهيأ بفضل الله أكثر من غيره لما اختصه الله به، وهذا التخصيص لكل فريق بمنحة وفضل خاص. الغرض منه التعاون وأن يبقى كل فريق في حاجة لغيره وأن لا تنقطع الصلة بين أهل الكتاب بأي شكل من الأشكال حتى يكونوا كما أرادهم الله خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر متعاونين غير مفرقين دينهم شيعا. وحتى لا تكون القدرة لأي فريق منهم  بأن ينفرد بالقيادة لوحده فيقصي الباقين. 
لقد أنزل الله الكتب وفرض الدين من أجل التشريع للاختلاف لا أن ينفيه أو يعدمه، فالدين هو بحث الإنسان المؤمن  المستمر عن التوازن ودفاعه عنه، وفي ظل الاختلاف وباستمرار هذا البحث تكون الحياة، وبغيابه يكون الجمود وتغيب الحياة، وهو موت النفس الإنسانية التي كرم الله بها تعالى بني آدم.
ملاحظة : نشير هنا إلى أصل هاته الدراسة مقالة تم نشرها سابقا تحت عنوان "أي دور للمثقف حسب النص القرآني ، أو من هم أصحاب الأعراف" 
الدكتور رشيد ظريف 

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية