عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

أولاد حريز في تاريخ الشاوية

أولاد حريز في تاريخ الشاوية

برشيد نيوز: بقلم الجيلالي طهير
توجد عدة مفاهيم لكتابة التاريخ، أفرزتها الاتجاهات المتعددة لمدرسة " الحوليات" التي أعلنت القطيعة مع الخطاب التقليدي السردي، في تناوله لتاريخ الحكام والمعارك الحربية. ما يهمنا هنا، ونحن نحاول الاستئناس به ، هو الاتجاه الذي اشتهر به فرناند بروديل، رائد الجيل الثالث في مجلة " الحوليات"، حين أدمج الجغرافية في الدراسات التاريخية، وركز على التاريخ الثابت الذي تكون التغييرات فيه على المدى الطويل في الذهنيات. ومن هذا المنظور، يبدو  تاريخ الشاوية وكأنه ابن جغرافيتها، وهي التي كانت على الدوام الشاوية المتعددة بتنوع مناطقها الثلاثة: المنطقة الساحلية الغربية، وهي عبارة عن شريط طولي من التلال المنخفضة بمحاذاة المحيط الأطلسي؛ والمنطقة الوسطى، وهي عبارة عن سهول ممتدة وواسعة؛ والمنطقة الجنوبية الشرقية، وتتكون من مجموعة من الهضاب المرتفعة. 
حين نترك المنطقة الساحلية ونتجه صوب الهضاب الداخلية، نخترق قبائل الزيايدة، ومديونة وأولاد زيان وهم الأقرب إلى الساحل الأطلسي؛ ثم  نتوغل في  قبائل أولاد حريز، المذاكرة، وأولاد علي، وأولاد سعيد التي تحتل منطقة الشاوية الوسطى؛ لنصل في الأخير إلى القبائل الأبعد عن الساحل، وبالتالي الأقرب إلى  الهضاب، وهي امزاب، وأولاد بوزيري، وأولاد سيدي بنداود بمنطقة الشاوية العليا. هذا التتابع التدريجي في الابتعاد عن سطح البحر، يحدث تغييرات مناخية تتجلى في أوقات شروق الشمس، وسرعة الرياح، ودرجات الحرارة، وكميات المطر، وما يحدث لنمو النباتات  وردود أفعال  الكائنات الحية.  وغني عن السؤال بأن  التباينات المناخية والتضاريسية تؤثر على تصرفات البشر وسلوكهم. فسكان المنطقة الساحلية، وهم أحواز الدار البيضاء حاليا، كانوا يتميزون بالمرونة والطباع اللينة. إنها قاعدة عامة تأتي من كون الحضارة صنيعة المدن، وحيثما توجد التجارة توجد الطباع اللينة، وحيثما توجد الطباع اللينة توجد التجارة، يقول مومنتيسكيو. وذلك بخلاف سكان الشاوية السفلى الذين يختلفون عن غيرهم  بطباعهم  الحربية، وبتميز حياتهم بالحرية وبقسط من الاستقلالية، فضلا عن عدم التفاوت الاجتماعي.  إنهم عالم من البشر كان يعيش الحالة البرية وسط عوالم الخيول والطيور والزواحف فوق أراضي فقيرة لا تستطيع إطعامهم.  كانوا لا يضعون المحراث بين أيديهم، وإنما يقودون قطعانهم، وهي رأسمالهم المتحرك، في بحث دائم عن الكلأ. وعند الإحساس بالخطر، يهربون  إلى سفح الجبل، ملاذ  الخارجين عن القانون، أو يختبئون في الغابة، فردوس الفارين من المخزن. وعلى العكس من هؤلاء جميعا، يعتبر سكان الشاوية الوسطى من الفلاحين والملاك العقاريين. فأرضهم أرض القمح بامتياز، والبلاد الزراعية دائما تحت سيطرة الأغنياء على حساب الفقراء. 
تقع الهضاب المرتفعة بين الجبال والسهول، وتختلف عنها  بامتلاكها  السكان الأكثر تحذرا وانغراساً. فهي تمتاز بثباتها ولا تعرف كثرة الهجرات السكانية الطبيعية. إنها الموطن الأصلي لأولاد حريز، أحد بطون بني جابر، الذين زرعهم السلطان الموحدي يعقوب المنصور في هضبة تادلا.  كانوا يتنقلون  مع قطعان المواشي إلى السهول تارة، ويؤوون إلى سفح الجبل تارة أخرى، جريا وراء الكلأ وكأنما كان يهرب.  فالأرض  بالهضاب  جافة وصلبة.  في فصل الشتاء، ينمو العشب الناعم كثيفا، ويستمر بعد هطول المطر. ولكنه يجف في غضون أيام قليلة مع الحرارة الأولى.  في ظل هذه الحياة القاسية، وسط الفراغ الموحش، كانوا يتنقلون كجماعات متلاحمة في دواوير كبيرة، تأخذ شكل تجمعات من الخيام، مكونين دوائر كبيرة تتوسطها حضائر الماشية. 
يتساءل المؤرخ المغربي  عبد الله العروي: كيف لم يتحول شيوخ القبائل العربية الذين أقطعهم السلاطين أراض شاسعة مقابل خدماتهم  العسكرية إلى إقطاعيين على غرار ما حصل في تاريخ أوروبا؟ ثم يحيب بأنهم ظلوا سجناء نمط  حياتهم القبلية التي حملوها معهم من شبه الجزيرة العربية.  أو كما يقول فرناند  بروديل في سياق عام: "كانوا لا يكتمون حرصهم على البقاء رعاة، مبدين  احتقارهم  للحياة الجافة عند السكان الذين لا يميلون إلى الترحال، ناقلين معهم عاداتهم، وتقاليدهم، ولهجاتهم، وفنونهم الشعبية، عيوبهم وفضائلهم". في هذا الصدد، يبتعد  فرناند بروديل عن المقولة الماركسية التي تجعل من الجدلية،  الأطروحة ونقيض الأطروحة، المحرك الأساسي للتاريخ. لأن بالنسبة إليه، القديم يمتص الجديد،  والتاريخ يتحرك ببطء عن طريق اتحاد الأضداد وليس تقاطعها. دائما الأطر الذهنية تشكل سجونا للمدة الطويلة، وتضع قيودا أمام المغامرات الفكرية التي تعيش في العقول الأكثر تحررا. 
إن صورة السهول التي يعمرها أولاد حريز اليوم مع جيرانهم، ما هي إلا حصيلة متأخرة  لقرون من الجهد المتوارث والمتواصل في الصراع مع الطبيعة من أجل القضاء على حياة الترحال.  نحن هنا نبتعد عن الحاضر بكثير من القرون، وندخل زمنا كان فيه ارتياد الماشية، بين الجبال والسهول، السمة السائدة، في منطقة مأهولة من طرف الجماعات المرتحلة من هذا الحد إلى ذاك. وإذا أردنا أن نفهم هذا التاريخ البطيء، كما يقول فرناند بروديل، فيجب أن نضع نصب أعيننا القيود الجغرافية، ونعتبر بأن الإنسان ضعيف أمام القوى الطبيعية. وبإنه مشدود  بعلاقته بالأرض التي تؤويه وتغذيه، وسجين المناخ والنباتات والحيوانات التي تتعايش معه. هذه الطبيعة التي تقيده هي  نفسها الطبيعة التي تفرض عليه الحلول وهو يختار منها الأكثر تكيفا معه. 
في الماضي، كان يُنظر إلى السهول على أنها رحم الأوبئة التي تحصد الأرواح بالجملة،  ويُنظر إلى الجبال على أنها نواة الحياة، لأن كثافة سكانها وشح مواردها كانت تدفع بها إلى قدف فوائضها البشرية نحو السهول المتضررة. هذه الظاهرة  الموسمية راسخة في القدم،  لكنها كانت تكتسب خطورة  في فترات المجاعة. ولقد تمكن السلطان المولى إسماعيل من محاصرة التدفق البشري الجبلي وراء القصبات التي شيدها لهذا الغرض. لكن بعد  وفاته، عادت الأمور إلى ما كانت عليه، بل  وبلغت أمواج الهجرة  أعلى ارتفاع لها  بسبب تزامن المجاعة مع غياب القوة  المخزنية  الرادعة أو المنظمة للتدفق البشري. قبل استقرار أولاد حريز وجيرانهم بشكل نهائي بالسهول الأطلسية حيث هم الآن، سبق وأن حصل نزوح السكان الجبليين الذين اكتسحوا الهضاب المحاذية لسفح الجبل. قام هؤلاء بطرد سكان الهضاب الذين وجدوهم أمامهم وأجبروهم على التخلي عن أرضهم والزحف باتجاه السهول. وأمام الضغط الممارس على سكان السهول توجه الأخيرون بدورهم نحو الشريط الساحلي، وتركوا أرضهم للمبعدين من الهضاب. في خضم هذا الاضطراب، تمكن مزاب من بسط  سيطرتهم على هضبة مكارطو التي كانت الموطن الأصلي للمذاكرة.  ومن أجل التعويض على  هذا الضياع ، قام المذاكرة  باحتلال أرض السوالم أولاد زيان، وهي جقمة بعين الخميس، مجبرينهم  على طرد الزيايدة  إلى بلاد  زناتة، والحلول محلهم فوق أراضي السهول. في ظل الفوضى العارمة،  انقسم السوالم  على أنفسهم إلى أربعة كسور متباعدة الواحدة عن الأخرى، وهي: السوالم بوشتة الذين يشكلون جيبا بداخل قبيلة مزاب، والسوالم هيديلي، والسوالم موالين الواد، والسوالم الطريفية  الذين استقروا بالساحل، جنوب الدار البيضاء. وفي نهاية الأمر، ترسخت الخريطة النهائية للقبائل، وفق التتابع التدريجي التالي:
 الساحل: مديونة، زناتة
الساحل والترس: أولاد حريز، زناتة
الترس : أولاد زيان، أولاد علي
الترس والمرتفعات: مزاب، أولاد سعيد، لمزامزة، المذاكرة.
المرتفعات: أولاد بوزيري، أولاد سي بنداود.
وخلاصة القول، احتل القادمون من  الجبال الهضاب الداخلية، وأبعدوا  قاطنيها نحو السهول. وبدورهم، قام هؤلاء بإرغام السكان الذين وجدوا أمامهم على التململ نحو الشريط الساحلي. ويبدو أن المذاكرة، أصحاب المنطقة الجبلية والغابوية بمنطقة النفيفيخ العليا، وأولاد حريز الوافدين من هضبة تادلا، كانوا  آخر المهاجرين  إلى الشاوية من الهضاب الداخلية.  لقد احتووا مزاب  وشكلوا معهم  حلف أولاد بوعطية. ومن ثمة  أرغموا  أولاد بوزيري على التزحزح باتجاه ضفة أم الربيع، والشهاونة وزناتة بالتزحزح  نحو الساحل، شمال الدار البيضاء،. وهكذا ابتعدت  زناتة عن أولاد سعيد جيرانهم الأصليين. وعلى هذا الأساس،  يكون أولاد بوزيري هم الوحيدين الذين تمكنوا من مقاومة هذا التدافع القبلي. وفي تقدمهم إلى الأمام تارة، وتراجعهم إلى الوراء تارة أخرى، تركوا  هنا وهناك بعض الجيوب التائهة، وهي " كدانة" بأولاد سعيد على الضفة الشمالية لأم الربيع، والآخر على الساحل  الأطلسي، بأولاد حريز الساحل، على الطريق الرابطة بين الدار البيضاء ـ أزمور، حيث يوجد لهم ضريح يسمى سيدي العائدي، بمقبرة سيدي البوهالي. 
ظلت الشاوية، ولفترة طويلة، أرضا سائبة، مترامية الأطراف، عمل  المخزن  جهدا كبيرا من أجل مراقبتها والسيطرة عليها. كانت تضم عوالم صغيرة مفككة، قادرة على الاكتفاء الذاتي، خاضعة لشيوخ منتخبين، يحكمون بين الناس بالعرف. حقا، كان علماء المسلمين يقولون " حب الوطن من الإيمان"، ولكنهم كانوا يقصدون بالوطن المدينة المنورة مركز الإسلام. ومن المنظور الفقهي،  كل أرض سائبة تعتبر "بلاد الجاهلية"، كونها تطبق الأحكام العرفية  عوض الشريعة الإسلامية.  وقد دخلت الشاوية تحت سلطة المخزن في عهد السلطان المولى سليمان.  ولما خلفه ابن أخية السلطان عبد الرحمان بن هشام،  أمر هذا الأخير  عمال الشاوية   بتعيين " طالب"  على  رأس كل دوار، كي يفصل بين الناس بالشرع ويلقنهم  تعاليم الدين الإسلامي. ولأن القديم يمتص الجديد، فإن الفولكلور عندما يختلط بالدين يتراوح بين السذاجة والشعوذة والطقوس الخرافية.

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية