عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

المجتمع المدني في مغرب اليوم : بين جنينية المفهوم وتشوهات الفعل

المجتمع المدني في مغرب اليوم : بين جنينية المفهوم وتشوهات الفعل

برشيد نيوز: بقلم ذ. عثمان بوعرفة
يبدو أنه لا يستقيم الحديث عن المجتمع المدني بالمغرب - ومن خلال تتبع مسار تطوره في الزمان والمكان - بدون تأطيره ضمن خانة الأزمة ، باعتبار هذا الأخير هو القادر على وصف وتشخيص واقع المجتمع المدني بالمغرب، إلا أن هذه الأزمة لا تتخذ صورة نمطية وموحدة ،بل على الأقل تتخذ صورتين أو مستويين، أزمة على المستوى النظري وأزمة على المستوى العملي، رغم العلاقة التبادلية والتأثيرية الموجودة بينهما ، فالارتباكات والمعيقات التي يعاني منها المجتمع المدني في كيفية اشتغاله بالمغرب هي نتيجة طبيعية للغموض الذي يكتنف هذا المفهوم نظريا، خاصة في ظل عدم قدرتنا على ضبطه والتحكم فيه ، نظرا لغياب العديد من الأدوات النظرية والمفاهيمية والسياقات الإبستيمولوجية  المتداخلة والمعقدة التي تميز تجربتنا المدنية المغربية عن التجربة المدنية الغربية .
وسنحاول الوقوف من خلال هذه المقالة على طبيعة المجتمع المدني بالمغرب من خلال أدوات وآليات اشتغاله وممارساته، وسننطلق من مسلمة نعتبر فيها أنه رغم التراكم النظري الحاصل على مستوى الأبحاث والدراسات التي تناولت بالدرس والتحليل إشكالية المجتمع المدني بالمغرب ( رغم حداثة المفهوم) ، إلا أنه بالمقابل لم نستطع عكس هذه التجربة الجنينية والحديثة على المستوى العملي والممارساتي، وبالتالي سنعمد على تأطير هذه القضية  ضمن مفهومين أساسين وهما: الحداثة والتقليد .
فماذا نقصد بهاذين المفهومين ؟
لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال لا بد من استحضار التجربة المدنية الغربية، والتي راكمت لمدة طويلة تشكل هذا المفهوم وتطوره ، حيث عرفت أفول المجتمعات الإقطاعية والتي تحكمت فيه الروابط التقليدية القائمة على الدم والقرابة ، وبروز المجتمعات الرأسمالية محلها ،القائمة على أساس التعاقد الاجتماعي نتيجة بروز فلسفة العقد الاجتماعي في القرن 18 .
لقد رفعت المجتمعات الغربية لمدة طويلة شعار "قليل من المجتمع السياسي وكثير من المجتمع المدني" ، الشيء الذي أفضى إلى دولة وطنية قوية ومجتمع قوي تنظيميا ومؤسساتيا ، وبالتالي استطاعت أن تحقق نوع من التكامل والانسجام بين حداثة المفهوم والفعل ، الشيء الذي جعل من المجتمع المدني رافدا قويا من روافد التنمية الشاملة وصانعا للنهضة الأوربية .
وفق هذه التجربة المختلفة زمانيا ومكانيا، بأي معنى يمكن الحديث عن المجتمع المدني بالمغرب هنا والآن ؟ وهل ما يظهر لنا من تناسل متكرر للهياكل الجمعوية والتنظيمات المدنية يعبر حقيقة عن المعنى الحقيقي للمجتمع المدني؟ ووفق أية معايير ومحددات يشتغل المجتمع المدني في المغرب؟ وما مذى حضور الشروط النظرية للمجتمع المدني التي نحتها المثقفون العضويون في المجتمعات الغربية ؟ وإذا كان المجتمع المدني يشير في أبسط تعريفاته إلى تلك المؤسسات والبنيات والأنساق الوسيطة التي تمنع الفرد من شطط الدولة ، ترى هل نجد استيعابا وتمثلا واقعيا لهذا المضمون المدني في المجتمع المغربي؟ وهل استطاعت التجربة المدنية المغربية أن تحقق نوعا من التوازن والإنسجام بين المجتمع المدني كمفهوم وكممارسة ؟.
تبدو هذه الأسئلة ممهدة للغوص في أعماق هذا الموضوع والتي نهدف من ورائها إلى خلخلة وتفكيك كثير من الأطروحات الجاهزة واليقينية ، على اعتبار أن مطمح السؤال السوسيولوجي هو التفكيك وصولا إلى الفهم والاحتواء المعرفي.
كثير هي الدراسات والأبحاث التي ناقشت وحللت بالتفصيل طبيعة المؤسسات والبنيات المتحكمة في المجتمع المغربي، وفي ديناميته الداخلية والخارجية ، فخلصت في معظمها إلى أن أي تحليل إلى لطبيعة المجتمع المغربي لا يمكن أن يتجاوز ثلاث مداخل أو بنيات أو مؤسسات أساسية ، لا زالت تفعل فعلتها في المجتمع المغربي إلى اليوم وهي : القبيلة والجماعة والزاوية ، هذا الثالوث التقليدي وإن اختلفنا في درجة ومستوى حضوره على المستوى المادي في التشكيلة المجتمعية ، إلا أننا لا يمكن أن نختلف في حضوره القوي والفعال على المستوى الرمزي داخل الذاكرة الجماعية المغربية .
إن المجتمع المدني شأنه شأن العديد من المؤسسات والبنيات الأخرى ، خرجت من رحم هذه البنيات، الشيء الذي يؤكد على أنه إذا كان الانخراط  في المجتمع المدني ودينامياته يدل على الإنخراط في خيار الحداثة وما بعد الحداثة ، فإن ما يحكم ويؤطر أدوات الفعل المدني يؤكد عكسيا بأن هناك ارتكان دائما إلى خلفية تقليدية ، قد تقطع أحيانا مع أبسط مظاهر الحداثة ، بحيث يصير تكوين جمعية ما محكوم بسؤال القرابة والعشائرية ، وعليه نجد إطارات جمعوية تربط بين صانعي القرار فيها تحديد رابطة القرابة والمصاهرة أكثر من أي روابط أخرى يفترض أن تكون مفتوحة على الهاجس التنموي المواطناتي ، بل إن مسارات الإنشغال والإشتغال ذاتها غامضة ومغرقة في كل المظاهر والسياقات التقليدية ، الشيء الذي يصعب معه الجزم والإعتراف بصفة المدنية داخل النسيج المدني.
إن التفريخ المتواصل للجمعيات والنقابات والأحزاب والظهور المتوالي للجماعات والمبادرات التي تضفي على نفسها صفة المدنية من حين لآخر على مستوى أهدافها الحقوقية والمواطناتية والتنموية، كل ذلك لا يخلو في امتداداته وممارساته المتعددة من حضور صور وأبعاد المكون الزاوياتي بتعبير الأستاذ نور الدين الزاهي  ، ولا يتحرر من ملامح القبيلة والعشيرة ، بل إن الأمر يتعدى ذلك بحيث نجد أن اختلاف أو خلاف أو انقسام داخل التنظيمات المدنية لا تعود بالضرورة إلى تباين واختلاف المرجعية الأيديولوجية، بقدر ما تكون مشروطة بالصراع حول الزعامات والرساميل التي يحوزها هذا الحقل ، وفي ذلك استنساخ واضح لطريقة وأسلوب أشغال النسق القبلي والزاوياتي.
كل هذا يجعلنا نتساءل عن حضور البعد المدني في اشتغال منظمات المجتمع المدني ، ولنتأمل إذن في الوظائف والأدوار التي يقوم تقوم بها منظمات المجتمع المدني نظريا، والتي نجدها تقطع كليا مع كل مظاهر الحياة التقليدية ، ونحاول قياسها ومقارنتها مع ماهو موجود في مجتمعنا.
تؤدي منظمات المجتمع المدني وظيفة ذات شقين: 
1- الشق الثقافي: ويتمثل في نشر ثقافة الحرية والتعدد والإعتراف بالآخر، وتعميق مفهوم الوطنية والعمل  الوطني الذي يخلق روح المواطنة ، وتقديم أجوبة شافية عن كل الأسئلة التي تدور حول مفاهيم الوحدة الوطنية والسلم المحلي وطرق تحقيقهما ، ومفاهيم الديمقراطية وطرق الوصول إليها وبناء المجتمع الديمقراطي التعددي .
2- الشق السياسي: ويتمثل في تحويل الأفكار السالف ذكرها إلى واقع عملي معاش من خلال سلوك أعضاء منظمات المجتمع المدني، ومن خلال تكوين بؤر إشعاعية قادرة على التغلغل في النسيج المجتمعي والتأثير في توجهاته وقراراته .
إن المتأمل في هاتان الوظيفتان يدرك جليا أن الذي يؤطر عمل واشتغال المجتمع المدني في الأصل هو مجموعة من القيم الوطنية بمضامين حديثة ،تتوخى النهوض بطموحات وتطلعات المجتمع التنموي المنشود ، وبالتالي ندرك من خلال كل هذا طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني ، أي أنه كلما كانت الدولة حاملة لقيم ومبادئ وطنية حديثة ، كلما انعكس ذلك على طرق وآليات اشتغال المجتمع المدني، ولعل هذا ما أكد عليه الأستاذ عبد الله ساعف ، حيث أقر أنه من بين الصعوبات التي تواجه المجتمع المدني بالمغرب تبرز طبيعة المؤسسات القائمة في التشكيلة الأيديولوجية السائدة وكذا الثقافة السياسية المنتشرة ، وكلها تشكل جاذبيات مؤثرة بشكل حاسم. فهل يلتزم المجتمع المدني المغربي بهذه الوظائف والأدوار؟.
إن تقديم الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب يفترض مجددا الإرتكان إلى خلفية حداثية قائمة على التعاقد الاجتماعي بدل الروابط التقليدية ، فإذا عدنا إلى العديد من الجمعيات في المغرب سنحد أن صانعي القرار فيها وغالبية المنتسبين إليها تجمعهم رابطة القرابة والدم والمصاهرة أكثر من الروابط الأخرى ، بحيث نجد أن اقتسام خيرات الحقل المدني من نصيب نفس القبيلة والعائلة والحزب ، ولا عجب في ذلك ما دام ما هو تقليدي هو المسؤول عن إنتاج رموز الحقل ومختلف فعاليته ، بل إن الهياكل المدنية التي تشتغل بمنطق احترافي لا تعفي نفسها من الوقوع في ذات التناقض الذي يتضح في مسألة الخلفية التقليدية المؤطرة للفعل والحضور ، ومنه تصير المكاتب المسيرة لهذه الهياكل مكونة من أشخاص ينتمون لنفس العائلة أو ينحدرون من نفس المنطقة ، بحيث يصير الرابط القبلي هو النقطة المركزية في جدول أعمال الجمعية أو المنظمة ، وهو ما يتعارض مع فكرة المجتمع المدني القائمة على المواطنة والمساواة في الإستفادة من خيرات الحقول المجتمعية .
وعندما نعود إلى هذه الجمعيات نجدها في الأخير هي جمعيات أعيان وشخصيات ذاتية نافذة وأصحاب مصالح كبرى ، تعمل بعيدا عن كل شفافية ومحاسبة ، وبالتالي سنسلم حتما بأنها تنهل بالتأكيد من الريع ومن الفساد الذي ساد البلاد لما يناهز نصف قرن من الزمن ، وسنورد هنا إحصائية مخيفة تعود الى الوزارة الوصية على القطاع ، وهي أن 97 في المائة من هذه الجمعيات لا يقدم أي وثيقة رسمية عن مصاريفه وأعماله أو ما نفذه من مبادرات وأنشطة وبرامج وما سواها ، الشيء الذي يعني أن توزيع ما يخصص من المال العام لدعم هذه الجمعيات ، لا يتم وفق معايير موضوعية وبناء على ما تنفذه من برامج ومخططات ، بل وفق معايير أخرى تنهل من الزبونية والمحسوبية والريع والولاء للسلطان، فلو دققنا جيدا في هذه الجمعيات وهي مستمدة لتسمياتها وعناوينها من الهضاب والجبال والوديان والسهول (إيليغ، أنكاد، أبي رقراق،الاسماعيلية الكبرى،الأطلس الكبير،رباط الفتح،دكالة، حوض سبو،الصويرة موغادور،فاس سايس،حوض آسفي،أحمدالحنصالي،تاونات الوردزاغ،) لتبين أن من ورائها إما أعيان كبار أو مستشارون بالقصر ، أو لهم بمحيط السلطان نفوذ أو وزن أو استلطاف ، أو لهم من القدرة ما يمكنهم من إلباس الحق بالباطل والباطل بالحق لإدراك مبتغياتهم وتحقيق مآربهم دون إدعاء بالإستقلالية أو الإقتناع بالطبيعة المدنية للنشاط الجاري .

إن المتأمل في هذه الجمعيات سيدرك جليا بأنها لم تنشأ بغرض تقوية النسيج المدني ، ودفعه لتعويض ما يمكن ألا تستطيع الدولة إدارته ... بل لتبييض صورة النظام ولتجميل سلوكه ، ولتصريف ما يصدر عنه من قرارات أو ما يترتب عنه من خشونة ، كما أن هذه الجمعيات لم تنشأ لتجاوز النظام أو المنظومة أو منافستهما، بل أنشأت للإسهام في تشريعهما معا وتصريف خطابهما بالجهات والأقاليم والمداشر والقرى والسهول والجبال كجزء من سياسة مراقبة الأفراد والجماعات بالتراب الوطني لا كعنصر تأطير أو تكوين أو توعية . 
لقد تبين اليوم كما يقول الأستاذ "عبد الرحيم العطري" نلاحظ متحسرين تسابقا محموما نحو احتلال مواقع متقدمة في جمعيات تنموية أو ثقافية أو اقتصادية ، وصرنا نعيش على إيقاع التناسل المفضوح لجمعيات وتوقيعات تبغي كسب الرضى المخزني، ونيل حظها من الكعكة بل هناك من اهتدى إلى الاستثمار في الباتولوجيا الاجتماعية ، واحتضان الفقر وأطفال الشوارع ، ليس حبا في العمل الجمعوي ، ولكن فقط من أجل التسلق الاجتماعي ، وهكذا غدت اليوم قضايا حقوق الانسان ومأزق الطفولة ، وكل مظاهر الافلاس المجتمعي ، ملفات جاهزة تنتظر من يركب عليها من اللاهثين وراء بقع الضوء.
ختاما يمكن القول بأن المجتمع المدني كفكرة جنينية لم تكتمل الصورة حولها بشكل دقيق،  تبقى محطة تساؤل ونقد عسى أن نساهم في زعزعة وتفكيك مسلماتها ومضامينها الملتوية والغامضة على مستوى أدوات وأساليب اشتغالها، ويبقى سؤال الديمقراطية كسؤال مرتبط بكيفية التدبير وصناعة القرار الداخلي والخارجي من أهم الركائز الغائبة في النسيج المدني، فالرئيس الذي تنتخبه الأجهزة في البدء لإدارة الجمعية أو النقابة يظل رئيسا مدى الحياة ، وأعضاء المكتب المسير الذين يعملون إلى جانبه يظلون أيضا أعضاء في المكتب المسير ما دام الزعيم قد رضي عنهم ، فالتقاعد من الفعل الجمعوي أو النقابي يظل أمرا نادر الحدود ، أما التناوب على تدبير الشأن المدني فيظل أمرا مستحيلا في ظل مجتمع مدني مشوه الفعل وجنيني المفهوم.
كما يظل مساءلة العقل المدني المنتج للفعل والمحدد لسلوك النخبة المدنية أمرا مهما، بحيث يعرف العقل المدني تأخرا عن تلبية الإحتياجات الأساسية للمواطن ومواكبة التغيرات التي يعرفها المجتمع، كما يمكن القول بأن العقل المدني يعرف حالة من العطالة والتبعية والتذبذب في المواقف ، بحيث يصير إنتاج الأفعال والمبادرات يظل مشروطا دوما بتوجيهات مالكي وسائل الإنتاج والإكراه ، وبالتالي يمكن القول بأن العقل المدني قد انخرط في موت سريري بفعل عوامل بنيوية متعلقة بغياب الديمقراطية الداخلية الموقوفة التنفيذ .

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية