عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

بقلم الجيلالي طهير: سيدي زاكور أو برشيد الصامتة

بقلم الجيلالي طهير: سيدي زاكور أو برشيد الصامتة

برشيد نيوز: بقلم الجيلالي طهير
 كانت برشيد مدينة صغيرة للغاية،  لها قلبٌ كبير للغاية. والآن، أصبحت برشيد برشيدان، بدون قلب، كما تطالعنا اللوحات الخضراء بمخارج الطريق السيار: برشيد الشمالية وبرشيد الجنوبية.  عند مدخل برشيد الشمالية يصادفك "مركز استقبال"، متعدد الأسماء، أمامه العلم الأمريكي، وفيه مراحيض معطرة  بمُطهر الخزامى. وأما برشيد الجنوبية، فقد شهدت في مطلع  السنة الفلاحية الفارطة تنظيم "المعرض العالمي للحبوب"، بأعلام عاشورائية  للإبهار، ومراحيض عشوائية في الهواء الطلق، صنعها إسهال  العياشة الذين  أفرطوا  في لعق العسل الحر.  
     كان الزوار العائدون من المعرض  باتجاه  مقبرة سيدي زاكور، الفاصلة بين مدينتي الشمال والجنوب،  يعبرون   زنقة المسجد، ويستعجلون  الخُطى،  كي لا يرجع البصر كرتين  على المتسكعين المكومين تحت أقواس البنايات، من حيث يفوح عفن البول الآدمي، وأشياء  أخرى. وصولا ً إلى البوابة الحجرية  لمقر عمالة الإقليم، تبدو  قبب مقبرة  سيدي زاكور البيضاء مرفوعة وسط الفراغ، كصناديق حجرية مُقببة، خالية من النوافذ، إلا من كواة  صغيرة  بأعلى الجدران.  عددها ثلاثة قبب، قُبتان متسويتان من حيث الحجم والجمالية، والثالثة دون ذلك.  المساحة  حول القبب خالية، تتناثر فوقها أشجار  الصبار والجريد، وقبور  اسمنتية  بشواهد منحوتة  متكسرة، وأخرى  ترابية،  بشواهد  نصفها مدفون في الأرض، بدون هوية (الصورة أعلاه). هؤلاء الراقدون تحت التراب لا ينافقون ولا يفخرون بشيء تافه وهم في القبور. إنهم  في موتهم بلا صوت، مثل أصحاب الضمائر الحية  التي تتأمل الفراغ الإنساني  في قلوب المسؤولين،  وتصوم على انتقاد  حكرة الشهب الاصطناعية للتنمية البشرية التي تمول "المشاريع العالمية"، على حساب العاطلين، وصغار الفلاحين الغرقى وسط الأوحال والظلام. 
     لا يحلف أولاد حريز باسم سيدي زاكور، ويحلفون بحق جدهم  سيدي عمرو بن لحسن. وعندما يغضب الفقري، ويسمع: " ها عار جدك"، يهدأ ، ويسامح،  وكأنه لم يسمع شيئا أغضبه. تعني لفظة سيدي زاكور  في التداول المحلي  " النم"،  أي  لا شيء،  فيقال لشخص لا نريد أن نصدق وعوده الكاذبة :  " لواه النم" أو " لواه سيدي زاكور".  يرقد  جثمان سيدي زاكور  تحت  حوش  متواضع، بدون قبة، كانت تتناسل فيه السحالي (بوبريص) ، قبل أن يتم تبليطه والزيادة في علوه.  لا تتوفر القبب الثلاثة المجاورة له على توابيت، أو شواهد   تقول  أسماء، ومناقب، وتاريخ وفاة أصحابها، أبناء  الولي سيدي عمرو  بن لحسن: علي وعثمان وعبدالله. 
      كتب أحد المستكشفين  كان نزل ضيفا بقصبة أولاد حريز، خلال القرن التاسع عشر، وهو في طريقه إلى تومبوكتو ، أن القائد محمد برشيد  كان يخبئ كنوزه  بداخل القبب،  حتى لا تترصدها أعين جواسيس السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام. هل هي أضرحة حقيقية أم مزارات لأشخاص مدفونين في مكان بعيد؟ إنه لتاريخ  مضطرب، سيما وأن البدو الرحل لم يكونوا يحملون معهم موتاهم على ظهور الإبل.  والأشياء المرتفعة ترمز إلى الجاه والسلطة الهادفة إلى ترويض ما هو أسفله على الطاعة.  العمائم  تيجان الأحياء، والقبب تيجان الأموات، تراتبية هنا وتراتبية هناك.  " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض آتينا طوعا أو كرها،  قالتا أتينا طائعين" ( سورة فصلت، الآية  11).  وفي الديانات القديمة، وفي الأسطورة،  يؤثر الرقم  3  بشكل سحري على مخيال العوام.
       يُصينم أولاد حريز جدهم سيدي عمرو بن لحسن، ويشبعونه بالهوامات، وبالتصورات الواعية واللاواعية،  بل ويعتبرونه الأب الهامي والحامي، سر الحياة  والوجود. في ستينيات القرن الماضي، نام  الفقيه بن لولو  العلالي  فوق حصير بال،  بداخل منزله بحي القيسارية، وسبح في الأحلام. ولما استفاق أشاع بأنه التقى في المنام  بجده سيدي عمرو بلحسن بسيدي زاكور.  " بغيت جدي يلقاني، وتشوفو كاع الناس"، تقول العيطة الحريزية.  طاف الرجل على الأهل والأحباب، وجمع مالا أنفقه على تبييض القبب الثلاثة ، وتزليج أرضيتها ، وتحصينها بأبواب خشبية.
       في عهد الحماية، كان موسم سيدي عمرو بن لحسن  يقام  دوريا خلال  أيام  عيد الأضحى،  بمحيط مقبرة سيدي  زاكور ببرشيد.  وفي منتصف الستينات، شجعت السلطات على الزيارات الموسمية المباشرة   لضريح  الولي بالسراغنة، عن طريق الحافلات والشاحنات.  لكن بعض شباب برشيد قرروا الاستمرار في إحياء موسم سيدي عمرو بلحسن محليا على  طريقتهم الخاصة،  فذبحوا حمارا وقدموه قربانا لسيدي زاكور. قام الموكب الشبابي  بحمل "المرفودة"  إلى  المقبرة  على إيقاع الناي، الذي يعزفه المرحوم  السويني العربي (مهندس).   وتكلف عبد الكريم عتيرا، أخ المرحوم لحسن بيدوش، بنحر الذبيحة،  لتتم مطاردته  من طرف السلطة العمومية. حكى لي أنه هرب من الشيخ صالح إلى الدار البيضاء،  فصادف جماعة من الناس مصطفين أمام   مكتب التشغيل   بالميناء، اندس وسطهم، وسجل نفسه في قائمة المهاجرين إلى فرنسا، ليجد نفسه فجأة في قلب باريس، المقاطعة الرابعة. 
     في تلك الأيام الجميلة، أوقف أحد القرويين كرويلته بساحة القيسارية، قبالة حانوت طريبيز، ونزل  يشتري الشاي والسكر. وفي لمح البصر، قفز فوقها العاشق وصديقه الضب، وهما مشاهير المشاغبين بدوار الحاج عمرو، وشقا  طريقهما نحو  سيدي عمرو  بلحسن، يقودهما الحنين إلى الرحم. كانت  الشاحنات التي تنقل الزوار  تتحرك ذهابا وإيابا، بين برشيد والسراغنة،  ولذلك كانت  تتقاطع في سيرها  مع الكرويلة المسروقة، ويرد الركاب  بالتحية والقهقهة  على الضب والعاشق اللذان  يلوحان  إليهم  بالأيادي. انتهت المغامرة عند وصول الكرويلة  إلى قنطرة وادي العبيد، بصعود اللصوص الصغار  إلى  دجيب  الدرك الملكي التي  وجودوها في انتظارهم. 
      في الجانب الغربي للمقبرة، كان  البهجاوي "با لمرابط" يشوي خرفانه على حرارة فرن تقليدي ملتهب، مصنوع من الحجارة والتراب الأحمر.  هناك أيضا، كان بويكرة، متسول شريد، يقضي لياليه يراقب النجوم، قبل الخلود إلى النوم بين القبور.  كان بويكرا  الذي يحتسى الجانكا الممزوجة باللبن ديال لعناية،  لا تفارقه الابتسامة، ويشع من عينيه بريق شديد. عندما أشاهد  صورة شي غيفارا ، وهو يسير وسط الأدغال، مرتديا معطفه العسكري، أتذكر بويكرا الذي يشبه  إلى حد ما  هذا  الثائر  البوليفي، لولا أنه  كان وسخا، ويمشي مائلا إلى الأمام، يقدم رجلا، ويجر الأخرى. وأنا طفل صغير، كنت أنظر إليه بفضول، وهو يخفي قنينة الكحول تحت معطفه العسكري، فينظر إلي باسما ويقول: " لا باس أولد السي بوبكر".  في أحد الليالي، نام  بوشعيب بويكرا كعادته  بين القبور، ولم  يطفأ شمعته،  والله أدرى بحاله، عثر عليه جثة مفحمة.
      ضاق فضاء المقبرة، وتم توسيعها بإضافة قطعة  أرضية مجاوره،  وهبها  الحاج لحسن العلالي، لدفن أموات المسلمين . وصدر  قرار  نهاية  الدفن  بالمقبرة  في نهاية  الستينات،  لكن سمح بعملية  دفن واحدة  بعد استصدار  القرار،  بتدخل من  عمرو  بلحبيب الفضيلي  لفائدة  عائلة صهره الهالك.  كان عمرو بلحبيب  صديقا لرئيس الدائرة  السي علي زلماط، يجلب إليه  كل صباح كميات كبيرة من الحليب،  يحملها على متن شاحنته الصغيرة.  وذات مرة، التقاه  صديقه  بوشعيب ولد عزوز  الحجاجي الذي يمر  كل صباح من درب جديد، وقال له ساخرا: " كون كنت باقي نولد، كون سميت عليك ألسى عمرو، أنت راجل ونص". فأجابه بلحبيب على الفور: " ياك اللبن كنعطيوه عا للكلاب".
     ونحن أطفالا صغارا، كنا نتسلق  ونتزاحم  فوق إحدى قبب سيدي زاكور، والأشجار، المحادية للملعب،  كي نشاهد عن بعد مباريات كرة القدم ليوسفية برشيد. لكن المقبرة لم تفقد ميزة القداسة إلا في منتصف الثمانينات،  عندما أصبحت تتخللها شبكة من الطرقات يقطعها الراجلون نحو الحي الحسني، دون احترام للقبور. وأخيرا، تم  إغلاق أبواب القبب الثلاثة بالإسمنت والياجور في وجه المتسكعين.  ثم أصبحت المقبرة  في السنوات الأخيرة  تتعرض  للحريق خلال فصل الصيف،  على يد  نويرة، الشريد  المدمن على  " الجانكا".  سبق لي  وأن  التقيت نويرة بمدينة بن كرير، مسقط رأسه،  فتعرف علي،  وفرح بي غاية الفرح، وكأنني ضيف  في قلب بيته. يؤسفني القول أنه  فعل معي ما لم يفعله رئيس مصلحة بعمالة برشيد ، موظف متعجرف  على الخواء،  وأنا بباب مكتبه. بعد مرور الأيام،  صادفت  الشريد  نويرة ،مرة أخرى، وكان يحاول القفز على سور مقبرة سيدي زاكور، المجاور لتجزئة الصافي،  مع صاحبه سكالامار. قلت له " حشومة نويرا "،  فلم يحسن معاملتي، ونظر  إلي وكأنه  رئيس مصلحة  يتطاير  الشر من عينيه. وإلى الآن، لا تزال  قبب سيدي زاكور  الصامتة  صامدة  في وجه تقلبات الدهر، بينما  اختفى نويرة  الذي كان يؤثث المشهد، ولم أعد  أراه  في الشارع ، حال جميع المتسكعين الذين تصل درجة حرارتهم العقلية إلى  وضعية عدم التحمل.
***
الصورة أعلاه من إهداء أحمد الوصيف ولد فراج.

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية