عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

عظماء، وكلمة عن أصحاب الكلمة.

عظماء، وكلمة عن أصحاب الكلمة.

 
بقلم: الجيلالي طهير
العظماء في برشيد يهانون، ولعلهم في قبورهم يعانون. يسألون الطبيب أبو بكر الرازي في قبره كيف الحال؟ فيجيب: أنا سعيد وقد زالت الغمة بزوال أحد المستشفيات الحاملة لاسمي. كانت اللعنة تنزل على رأسي مدرارا من بلاد المغرب، من مدينة اسمها برشيد، أهلها أطلقوا اسمي ا على مستوصف صحي، هو المرض بعينيه. وأما الآن، فقد ثقلت الموازين وأنا في عيشة راضية، بعد أن تعرض المستوصف للخراب والدمار، إلى آخر جدار. الحمد لله.
وليس حال الفيلسوف أبي الوليد ابن رشد بأسوأ من حال معجزة الطب أبي بكر الدين الرازي، وهو الذي أطلق اسمه على أول مؤسسة للتعليم الثانوي ببرشيد. فمنذ عشرات السنين، كان مدير الثانوية المرحوم الحاج عبد القادر الخزاني يقول لكل تلميذ طائش أو أساء التصرف بداخل المؤسسة: " اخرج علي من مؤسستي". كانت تلك العبارة بعض من الغيرة لدى هذا الرجل الفاضل على الثانوية، وحرصه على سمعتها إلى درجة التماهي معها، معتبرا خدشها مسا بكرامته الشخصية. ومن قبله، كان المدير الفرنسي رونـي أوبليان أكثر تشددا من غيره في الحفاظ على الانضباط و النظام بداخل المؤسسة التي ولدت وكبرت على يديه، منذ كان اسمها المدرسة الإسلامية إلى حين ترقيتها إلى ثانوية، سميت بداية ب "ثانوية برشيد المختلطة".
انظروا لهذا الرجل الموجودة صورته بداخل الإطار أعلاه. إنه المسيو روني أوبيليان ، مدير مدارس برشيد من سنة 1947 إلى سنة 1968. كان يركب دراجة هوائية، من لون أسود، يتنقل على متنها لتفقد المدارس الابتدائية التابعة له بالبوادي، وهي: مدرسة الزاوية بالنواصر، مدرسة السيخ العائدي بتاعلاوت، مدرسة دار الباشا بالقصبة الجديدة، مدرسة السي ادريس بدوار لغفيرات، مدرسة سيدي سعيد بن معاشو. هذا الرحل هو من اقترح برامج التعليم التي سنها محمد الفاسي، وزير التربية والفنون الجميلة في أول حكومة الاستقلال. يؤسفني القول أن بعض المؤسسات التعليمية ببرشيد تحمل اليوم أسماء أشخاص أميين تكريما لهم لقيامهم بدور ما. لكن الأمر لا يؤهلهم ليصبحوا رموزا للعلم، ما داموا أميين، حتى تطلق أسماؤهم على مؤسسات تعليمية.
في سنة 1967، تم تعيين المرحوم طائق بوشعيب معيدا بثانوية بن رشد، فقام التلميذ عبد الكريم بن الحسين تاكاديرت تحاهه بحركة تنتقص من احترامه بصفته رجل تعليم. قال لنا السي بوشعيب طائق، بخصوص ذلك: " لم أتمالك أعصابي وضربته "بنص" فأسقطته أرضا؛ كان المدير واقفا، وعاين المشهد من بعيد، ولم يكلمني فيه أبدا، وإنما أعطى أمرا للحارس العام المرحوم المعروفي، وقال له بخصوص الحاج الحسين، والد التلميذ عندما شكاني للإدارة: "اعطه شهادة مدرسية، وقل له يبحث لابنه عن مؤسسة أخرى، إذا لم يعجبه الحال هنا".
أين وصلنا الآن فيما يجري بمحيط ثانوية ابن رشد من تحرشات غير أخلاقية؟ التدهور الذي لحق المؤسسة يشبه التحول من الرزانة والنضج الذي عودتنا عليه جريدة " العلم" إلى ثقافة " من القلب إلى القلب" الذي أشاعته جريدة "الأحداث المغربية" بين الشباب. جريدة "العلم"، الجريدة الأم، كان لها ملحق ثقافي أسبوعي، تقرأ فيه الشعر، ونقد الرواية، والمسرح، والقصة القصيرة، الخ. وأما جرائد اليوم، فتسوق للقراء مواضيع الإثارة وصور فتيات شبه عاريات لتبيع أكبر عدد من النسخ؛ والأسوأ أنها تنتقد رجال التعليم وتلومهم على الانحطاط الخلقي بالمؤسسة التعليمية.
رحم الله الجنرال الكتاني بن حمو الدقوني، وغفر لورثة الدم، من ذوي القربى، وما فعلوه به، حين أزالوا اسمه من على جدران القيسارية، نتيجة الهدم الهمجي الذي طالها دون تقدير لقيمتها المعنوية والرمزية، غير القابلة للتقييم بالعملة. وها هي الآن القيسارية، بعد سقوط أمطار الخير تحولت إلى بركة خضراء، بمياه عكرة، طافية على البساط الأسمنتي، تتناسل فيها الطحالب والبعوض والضفادع. وفي السنة الماضية، سقط شاب في العشرينات من عمره ليلا في حفرة، عمقها 5 أمتار، بالمشروع المتوقف ونجا بأعجوبة، بعد الإصابة بكسر خطير ( راجع مقالة الأخ رشيد نايت عيس، بموقع كيفاش).
يعتبر الكتاني، المتخرج من مدارس برشيد، أول مغربي حصل على رتبة جنرال في تاريخ القوات المسلحة الملكية. ومن سخرية الأقدار، أن المدرسة الحاملة لاسمه طالها الهدم، بعد أن أصبحت جدرانها آيلة للسقوط.
إن مدينة برشيد كامرأة تعاني من الأوجاع والريح والمغص. يشعر زوارها بخيبة الأمل وهو يتوقعون أنهم سيجدون فيها شيئا من روعة التاريخ. لكن المنتخبين الدين يبدلون قصارى جهدهم لطمس معالمها التاريخية، لا يمنحونهم هذه الفرصة، لأنهم جعلوها تبدو كمدينة لقيطة لا أصل لها ولا فصل. بلغة أطباء النساء، القيسارية غير المكتمل بناؤها تشبه الطفل الذي يولد في الشهر السابع بعملية قيصرية، ثم لا يلبث أن يموت تحت صدمة الضوء. ما كانت لتسقط من الأصل كي تموت من جديد، وما كان شعار مدينة برشيد ليستحق الذبح والسلخ.
لكل شيء نهاية، والخلود لله عز وجل. بعد عشرين سنة، أي بعد زوال عهد الظلمة والذل وجنون العقار؛ وبعد غرق الخاسرين في وحل الهزيمة وانتكاسة أعلامهم، سيتحدث الناس، أطفال اليوم، رجال الغد، عن التواطؤ، أو الصمت المخجل للبعض منا، جراء تدمير العقل بالتعصب، و حب الزعيم، وحب الحزب، وحب التمسح بأصحاب المال. مع مرور الزمن، هذه الأشياء ستبدو لأجيال المستقبل وكأنها محاولة الإمساك بالبرق من غير جدوى، وأصحابها بالنسبة لهم لا شيء.
أكتب لأقول كلمتي، و الأمل هو أن نحاول جميعا أن نفهم ماذا يحدث لنا. ربما لو رأينا جميعا لوضحت الرؤية لنا كلنا. فالرؤية هي النور، والظلام هو أن نغلق أعيننا، أو نترك يضربنا حمار الليل، فنجد أنفسنا ابتعدنا كثيرا عن محطة الرقي والحضارة.
الكلمة هي الوجود، ومن لا كلمة له لا وجود ولا كينونة له. يقول الدكتور يوسف زيدان في شرح الآية الكريمة: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا به مددا"، أن عبارة كلمات ربي ترددت مرتين في الآية الكريمة لتوكيد المعنى الدقيق الدال على أن الكلمات هي الوجود.
عندنا في التاريخ المقارن لرؤساء بلدية برشيد، كان للرئيس عبد الله القادري كلمة مسموعة لدى سلطة القرار العليا بالرباط، إلا من طرف نوابه وأتباعه المتلاعبين بمصالح المواطنين ببرشيد. وبالتالي، فإنه كان موجودا وغير موجود في آن واحد. كان دائم الغياب على برشيد، ويحكمها بالكرسي الفارغ و"العصا السحرية"، مما جعل بعض كلامه حبرا على ورق، وغير قابل للتنفيذ، بسبب عدم التوفر على أدوات التنفيذ. أحد الأصدقاء القدامى، وهو الحاج محمد دحان، كان يحكي لي دائما عن لقاءاته بالسيد القادري، بمطار محمد الخامس، فيشتكي له من النواب السماسرة الدين يماطلونه في الحصول على رخصة إصلاح مستودع. لم يكن الشاب محمد دحان من النوع الذي يدفع رشوة، فكان السيد الرئيس يقول له كلاما طيبا، ويركب الطائرة، ولم يعمل أبدا على مساعدته على الحصول على الرخصة المطلوبة. وما كان له أن يحصل علىها إلا بعد فوز حزب الاتحاد الاشتراكي برئاسة المجلس البلدي، في ولايته الأولى.
حاليا كذلك، نلاحظ أن لا كلمة للسيد القادري في صف المعارضة بالمجلس البلدي، ولم نقرأ له قط بيانا صادرا عن حزبه بشأن الموقف من التدبير- التدمير الجماعي الحالي. وإذن فهو غير موجود، لا في الحكم ولا في المعارضة. إن السياسة ليست هي لعبة "حابة".
ثم جاء الرئيس محمد طربوز ومعه الكلمة الصارمة، وفي حدها الحد بين الجد واللعب. كان الحاج محمد طربوز بمجرد توصله بشكاية من مواطن ينقلها له عضو من المجلس البلدي، يقوم بالتدخل السريع لمعالجة القضية، دون انتظار، أو يدرجها كنقطة بجدول أعمال دورة المجلس البلدي، ليتخذ فيها طلب التدخل من الجهة المختصة، عند يتجاوزه الاختصاص. صحيح، نحن نركز باستمرار على الخطأ المرتكب من طرف الرئيس محمد طربوز في حق القيسارية لدرجة لا تحتمل، فالأخطاء واردة عندما يكون سجل الإنسان حافل بالإنجازات، ولا يجب السكوت عنها، كي لا تتكرر. وفيما عدا ذلك، عندنا أيضا لكل ذي حق حقه، والحق أن الرئيس محمد طربوز كان موجودا ومتواجدا، وفارضا الوجود.
ثم جئنا للرئيس الحالي، وهو ظاهرة ديمقراطية فريدة وغير مسبوقة، وعنده قول "نعم" تساوي "لا"، وكلمة "لا" في قاموسه بمثابة " نعم". فعندما يقول لنا السيد الرئيس الحاج محمد بن الشيب أن لا وجود للحفر بأزقة برشيد، نفهم أنه يعترف بوجودها، وهو الآن فعلا بصدد ترقيع الجزء الظاهر منها على الواجهة. وعندما يقول لنا، سنشيد لكم قنطرة على حدود زنقة مراكش، نفهم بأنه لن يفعل لنا شيئا أو أنه سيحول مجرى النهر للسقي بحقله الخاص. وعندما يسكت الرجل عن الكلام، وينفي وجوده الوجودي في صمته، تاركا الكلمة لغيره، يقف النائب بوشنيف، الصوت الخافت لشعب برشيد، والظل الباهت لشجرة العدالة والتنمية على الأرض، ليقول للشعب وللأرض أن الأعمدة الإسمنتية التي تشكل خطرا على حياة المواطنين ليست من اختصاص المجلس المنتخب على الأرض بواسطة الشعب. إن القرار، أي القول والفعل، هو تحقيق الوجود بتوفر الإرادة؛ وإذن لا يمكن للإنسان أن يكون قوله في واد، وفعله واد أخر؛ لأنه والحالة هذه يعتبر غير أهل للمسئولية.

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية