عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

لحظات مع قصيدة الموت للفنان الشعبي اخليفة.

لحظات مع قصيدة الموت للفنان الشعبي اخليفة.


« C’est un samedi, à six heures du matin, que je suis mort ». Zola
بقلم: الجيلالي طهير
 الفنان الكوميدي الشعبي المرحوم اخليفة عاش بيننا، حيث كان يقيم الحلقة  أسبوعيا بسوق اثنين برشيد والأسواق المجاورة، رفقة  معشوقته  آلة الكمان التي لازمته كظله، حيثما حل وارتحل. فأطرب معجبيه وأمتعهم،  ساعد المكروبين على العلاج بالترويح عن النفس،  وأتاح للجميع فرصة التغلب على الخوف  بواسطة  الضحك  من المصاب الجليل.  وكذلك فعل المرحوم الحسناوي، بطل آخر من أبطال الحلقة، بواسطة النكتة القصيرة النافدة، وهذه واحدة منها:
“لصقع داخلاه الموت   
مرتو تقول ليه: آآآه بغيتي تسافر
ولدو يقول ليه: بويا، غاتمشي وتخليني بلا دخان”.
لا يوجد إنسان لا يؤمن بالموت أو لا يفكر فيه. لكن عادة ما ينفر الإنسان من الكلام عن الموت بسبب الفزع من فكرة الهبوط إلى العالم الأسفل. وحدهم كبار الأدباء، من الطراز العالمي، يمتلكون الموهبة والإحساس، والقدرة على تناول الموت في قالب فلسفي أو فكاهي، أمثال: الكاتب الفرنسي إميل زولا، في رواية “موت أوليفي بيكاي”، والكاتب الروسي ألكسيس أبوخين في رواية “بين الموت والحياة”، والكاتب التركي عزيز نيسين في رواية “الحمار الميت”.
 الميت، في روائع الأدب العالمي، يري ويسمع ويشعر، ولكنه لا يتكلم.  إنه يشعر بارتياح الأقرباء والأصدقاء، حول جنازته،  ممن كانوا يتهربون منه قيد حياته، حتى لا  يسددون له الديون التي عليهم،  ذلك هو  شعور  الأمير ديميتري ألكسندرفيتش، بطل رواية ألكسندر أبوخين، الذي  عاين موته الطبيب وأقيم له  حفل جنائزي مهيب في  قصره، لأنه جد غني. إن الميت يشاهد أيضا الدائنين، وهم ملتفين حوله، يتحسرون على عدم تحصيلهم الديون التي في عنقه قبل وفاته. وذلك حال بطل رواية عزيز نيسين، رجل فقير، لفظ أنفاسه  مرميا على حافة الطريق، في انتظار قدوم سيارة الإسعاف، التي لا تأتي مبكرا، لأنه بالنسبة لهم من فصيلة الحمير.
  أو ليس ثمة أحياء أموات وثمة أموات أحياء؟يكتب عزيز نيسين على لسان الحمار الميت يحكي كيف مات: “تمددت على طولي في ساقية على حافة الطريق. رمقني أحد المارة رمقة، رمقتين. عندما لم يلحظ مني أي حركة، فتشني. ولما لم يجد الرجل أي نقود في جيبي، ركلني وبصق في وجهي. إنه صاحب ضمير، كان بإمكانه أن يعمل شيئا آخر غير البصاق… الأعمال في المقبرة تجري بسرعة وعلى ما يرام لعدم وجود أي دائرة حكومية أو أي موظف “.
يستهل إيميل زولا  رواية ” موت أوليفيي بيكاي” بهذه الجملة الشهيرة: ” كان يوم سبت، على السادسة صباحا، عندما متت”.  ويكتب ألكسندر أبوخنين في مستهل رواية ” بين الموت والحياة” الآتي: “عندما قرب الطبيب أدنه من قلبي، وضع مرآة صغيرة على شفتاي، والتفت نحو زوجتي قائلا لها بنبرة هادئة: ” انتهى”. عندئذ فهمت أني مت”.
 ما يعبر عنه  الروائي الكبير إيميل زولا في جملة مقتضبة، أو يقوله ألكسندر أبوخين في كلمة واحدة،وهي:c’est fini ! ، يفصله  الفنان الشعبي اخليفة في عدة مقاطع ساخرة، وهو يتتبع  مسار الموت تتجول في أنحاء جسده، خطوة بخطوة،  بداية من دبيبها بأخمص القدمين إلى حين طلوع  الروح وتحول  الجسد إلى قطعة خشبية باردة. ثم بعد ذلك، تأتي السخرية على مغسليه، وحتى آنية الغسل ذاتها، يأتي عليها الدور، ولا تسلم من السخرية.
تبدأ القصيدة عند خليفة بالحمدله ويتخلل الحكي، بين الفينة والأخرى،  ارتجال عفوي ساخر  من خارج النص، و أنغام موسيقية يعزفها  الفنان ببراعته على آلة الكمان:
” حمدتك يا ربي، الله الله، صليو على سيدي رسول الله، الله يا مولانا. جاتني الموت من الرجلين. شين نهار الدايم الله نمشيو كاملين، قولوا سبحانه. دازت ليا للكعبة، الله الله.  طلعت ليا لساقي، زادت ليا للركبة، طلعت ليا ثاني  لفخضي. زادت ليا للولسيس، طلعت ليا لبوكبار. دخلت ليا بوبينوط. دخلت ليا لكاشوشي، دازت ليا لكرشي. يا ربي فرح بنا كلشي. الله الله، الله يا مولانا الشفاعة آرسول الله. دخلت ليا لعنقي، طلعت ليا لغزازات الكليا، خرجت مني روحي ومشات. بقات ذاتي خشبة وبردات. شوفو آش تابعنا آلمسلمين.
جابو ليا الماء في سطلة، لا هو سطل سطل، لا هي سطلا سطلا، لا هو طنجير طنجير، لا هي كافيتاريا كافيتاريا.
مشاو حفرو قبري في الخلا، مشاو الموقف جابو ربعا صحاح
تاواو معاهم بستين ريال نصف النهار الأول، قالو ليهم عاودو تخدمو
قال ليه آش باغي نرفد؟ قمح ولا شعير؟ مادري ولا خيش؟ قال ليه اتبعني واسكت.
جابو هم  لبيت، قال ليه  ها هو  فين مغط، ارفد خوك ولا تدلك في عظامك
خرجوني لوسط الدار ، ساووني في المرح (آودي  آراسي شين نهار تصل بها)
رفدوني ساروا بيا ، (على كل واحد)  شحال تابعني من غاشي، هاد الدنيا ما تسواشي . ( ويكون عندك الفيرما)
 غادين بيا بلا لا إله إلا الله، محمد رسول الله، صلى الله وعليه. وصلوني آلحباب،    جيت في المطيميرة قلت تزت. زادو عليا حجر وطوب. جيت نهرب ما لقيت فين نهرب.
ابكي ولا ضحك. قلت ليها جيتك طالب ضيف الله، قالت لي مرحبا بضيف الله.  ارقد لا باغي ترقد، ارقد بزز، عا ارقد ولا نعصرك”.

الموت غير قابل للتفاوض، إلا في روح الفكاهة المفعمة بالطمأنينة، كما عند الفنان اخليفة. ففي نهاية القصيدة، يحدث اللقاء في  ظلمات القبر مع نكير ومنكير، اللذان لا ينفع معهما تدبير. وبعد استجواب بسيط للميت الضيف،  يؤمر الأخير بدخول الجنة على الهوية، لا لسبب، سوى لأنه من الفقراء المسلمين الجهلة. أو ليست المعرفة شقاء؟ هناك أيضا الشقاء في انتظار.
” قال ليا، آلرجل نوض نسولك
آسيدي يالله رقدت
قلت ليه، آش قلتي آسيدي
قال ليا، أنت اللي مسرح ليا هنا رجلك قاريش؟
قلت ليه، لا  آسيدي ما في راسي قراية.
قال ليا الليلة ندلكك، ما قاريش ومسرح على خاطرك، نوض الجنة أنت وخوتك لمسلمين.
ما كاين من غير الله، الشفاعة سيدنا محمد رسول الله ، صلو على النبي تربحو”.
في حديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء ب 500 سنة. الغني لا يدخل الجنة حتى يسأل عن ما أعطاه الله له من الدنيا، بخلاف الفقير فإنه لا شيء عنده يسأل عنه. أصحاب المال يشتركون مع غيرهم في الحساب ويزيدون عليهم بالسؤال عن المال سؤالين: من أين اكتسبوه ؟ وفيما أنفقوه؟
فمن هو الفقير؟ الضحك ولا شيء غير الضحك، اضرب الدنيا تزعرط للآخرة، هو  جمهور الحلقة، وهو الفنان نفسه. وقد تتلخص حياته في أربعة أشياء: الطرب، الخبز، الجماع، وأمنية الامتداد في الزمان بعد الممات. يقول اخليفة عن رفيقته آلة العزف، الكمانجة، أنه اصطحبها معه إلى الحفل فطرد  منه شرد طرده. قالوا له، لا يوجد صحبتك شيخات، خدها  وارحل من هنا. وقالت له الطاهية، ستجعل المدعوين يتركون العرس، هم على موعد مع الراقصات.  والحالة هذه، ماذا يمكن للفقير،  الذي لا  شغل له، أن يفعل سوى أن يتزوج  بائعة الخبز، فيضرب عصفورا بحجرين: ملأ البطن  والجماع. يتمنى  الفقير لو  ينزل الله له كفنا من السماء، ويضع له  الأهل قبرا جنب الطريق، لتسهل الزيارة ولا يطاله النسيان، في الممات كما في الحياة.
 في قصيدة بعنوان ” مولا نوراين”، يقول الفنان خليفة  في أبيات متفرقة:
جاي بلا شيخات، ارفدها  ونوض (الكمانجة)،
وهاديك اللي كتفور  الطعام: لمها ونوض غا تهرب لينا بندام.
         وأنا نجري وهو ي ي وهو ي ي  … شويا وزلقت في الغيس.
         الى معندك جاجة، خود خبازة، منها خبيز منها كرد لا باغي تكرد
آلخالق بطاطا، سيب ليا شطاطا
آمولانا الكريم، سيب ليا تشامير
يا ربي تجيب لينا وخوتنا الخير ( اعرفتو تشمير أشناوه؟ راكم عارفينو. عا تمغط وتصنت لعظامك، عا ادكر الله وتسرح)
وديرو  قبري في الطريق وزروني، أ مولا نورين. 
ويتحاشى الفنان اخليفة الكلام  سلبيا عن الأغنياء، ويخص المسلمين جميعا بالرحمة. فلا أحد ينجو من الموت، لا أصحاب القصور والمنازه، ولا حتى “عناق بن عواج” الذي لا يشبع من الأكل:
  قالت ليا (الموت) إن صح القول، والله أعلم
 وخاي أنت مهبول، شحال من واحد قبلك كان يصول ويجول. فين المنازه والبنيان؟ فين الأولين الله يرحمهم ويوسع عليهم؟ فين عناق بن عواج؟ كان ساكن في البحر، قال لك آخوتنا كان يشوي الحوت على الشمش. كون بقا ما يخلي تا حوتا في البحر باش نتعشاو، يظل عا يسرط  وما يشبعش.

وهل يعقل أن يتقدم الفقراء على الأغنياء في دخول الجنة؟ يقول أحد الشيوخ الميسورين  من بلاد الجزيرة العربية، في تفسيره  لكلام النبي صلى الله وعليه وسلم، أن الفقراء يسبقون الأغنياء دخولاً إلى الجنة، ولكن الأغنياء إذا دخلوا الجنة صاروا في منازلهم التي يستحقونها فوق الفقراء، والجنة درجات ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) .
تلك هي الرؤيا التي يعتمدها الكاتب التركي الملتزم، الساخر  عزيز نيسين، في قصة ” الحمار الميت”. يدخل بطل الرواية جهنم بداية، ويجدها ترفا لا تختلف في قسوتها عن الحياة في الدنيا، كما هو متعود عليها. وعندما ينتبه زبانية جهنم لعدم إحساسه بالألم، يرسلونه إلى الجنة حيث فيها الناس طبقات غير متساوية، وأجمل الأماكن محجوزة للأغنياء، يقول:  
” لم يجدوا مكانا مناسبا ليضعوني فيه، جهنم قليلة بالنسبة للذنوب التي اقترفتها. قالوا: لنضعه في قعر جهنم ولنر ماذا نجد له مستقبلا. كانوا يخيفوننا  بجهنم أثناء حياتنا أليس كذلك؟ لكن كنت أعيش في قبو يشتعل حرا، صيفا، وكالثلاجة شتاء. هنا ما يشابهه تماما. كأنني لم أمت، بل أكمل حياتي السابقة. (..) للأسف لم تستمر راحتي الجهنمية هذه كثيرا. رفع زبانية جهنم تقريرا  إلى الجهات العليا حول سعادتي، وراحتي هناك. أصدر قرار: ” لا يوجد عذاب في جهنم لم يتعذبه في حياته، لأنه متعود على كافة الهموم والآلام والمرارات، فجهنم بالنسبة له مصيف، رأينا من وجهة نظرنا، من أجل تعذيبه أن ندخله الجنة”. (..) لقد أعطو أجمل أماكن الجنة لمن عمل أكبر خير في حياته. يعيش في منطقة جنة العلا من عمل صالحا أكثر.. يجب أن يعمل الإنسان خيرا ليدخل الجنة، ولكي يعمل خيرا يجب أن يكون غنيا…أعطيت مفارز الأرض جانب البحر لأصحاب الأعمال الخيرية… لا فرق بين الجنة هده ووطننا.
برشيد في 14 نونبر 2014
]الجيلاني طهير

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية