عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

الدكتور دولامار: مسلم بلا إسلام

الدكتور دولامار: مسلم بلا إسلام

LAMAR


بقلم: الجيلاني طهير


بعض الأوروبيين ممن قضوا جزءا مهما من حياتهم ببرشيد، بقيت أسماؤهم  مخلدة في التاريخ، وإن كانوا ليسوا من المسلمين، حيث لا يزال معاصروهم يتحدثون عنهم بلغة التفاني في العمل ونكران الذات،  كان لهم ضمير، وكانت لهم قيم ومبادئ وأخلاق. لا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام، فيا حكامنا المحترمين، كثيرا من العمل، وقليلا من إنجازات الطوب لأنفسكم، فالعصر التاريخي يقاس بقيمة الإنسان فيه وليس بالأحجار.


لما رجع الداعية الإسلامي الكبير، الشيخ محمد عبده، المتوفى سنة 1905، من سفره إلى أوروبا، قال: "وجدت في أوروبا مسلمين بلا إسلام، ووجدت في بلدي إسلاما بدون مسلمين".   مسلمون بدون إسلام، عملتهم الإخلاص لعملهم، منهم الدكتور أدريان دولامار أشهر طبيب فرنسي اشتغل بالمستشفى الأهلي ببرشيد. كان نصرانيا حريزيا، من أولاد سيدي عمرو بلحسن، جد الشرفا جد العوام. فكان كلما أراد القيام بعملية جراحية، يقول: " آسيدي زاكور، آولاد سيدي عمرو بلحسن"، جامعا  بين المعرفة المنطقية والإيمان، أي القوة الغامضة، أساس المعتقدات بالمعجزات والتحكيم الإلهي، التي تدفع إلى إضفاء صفة القداسة على الأولياء.  ليس في الأمر غرابة، إن استمرار العلاقة بين الإنسان والآخرين، ومع المكان، تتولد عنها سلطة التقاليد والعادات، وسلطة الكيانات الماورائية والقوة الخارقة.


إن الأمور لا تجري بشكل مختلف عما كان يدور في العصور القديمة. فقد كان اليونانيون يقدمون الأضحيات والقرابين  إلى أفروديت أولا، ثم إلى أبولون. وكان الرومان يعبدون "تلوس ماتر" آلهة الأرض، ثم أقاموا المعابد والهياكل في مرحلة لاحقة. ونحن ما زلنا نسير على هذه الخطة في عهدنا هذا، نذبح القرابين على أضرحة الأولياء،  رغم أننا سلوكنا تجاوز التفكير السحري. إن القدر هو المسيطر لا العلم.
















« Contribution à l'étude de la suppuration gazeuse spontanée des kystes hydatiques du foie ».


هو طبيب فرنسي حاز على الدكتوراه في الطب سنة 1924، بتقديمه لأطروحة، لا تزال  لحد الآن معروضة في أسواق الكتب الطبية، بعنوان:  "مساهمة في دراسة التقيحات الغازية التلقائية للثمامات الكبدية".
















Rouen


تزوج  الدكتور أدريان دولامار من السيدة إيليزابيت ديبري، مهندسة كيميائية، بكنيسة سان فانسان  بمدينة روان             ،    مقاطعة السان ماريتيم،  لجهة النورماندي العليا، بشمال غرب فرنسا، سنة 1931.  وهي المدينة التي سماها فيكتور هيكو : " مدينة المائة جرس كنائسي".


Rouen, la ville aux cent clochers, comme l’appelait Victor Hugo.


كان للدكتور دولامار أخوين اثنين ، أحدهما مارسيل  مات في ساحة  الشرف بالحرب العالمية.  وكانت تعرضت مدينة روان  للاحتلال النازي خلال  أربع سنوات، دامت  من 1940 إلى 1944. وقصفت خلال "الأسبوع الأحمر" ب 400 قنبلة، تزن كل واحدة طنا من المتفجرات، خلفت 2000 ضحية وتشريد 40.000 شخص.


 عين أدريان دولامار طبيبا للمستشفى الأهلي ببرشيد في مطلع الثلاثينات، وحصل على الميدالية البرونزية سنة 1930، قبل  تعيينه خبيرا  مقبولا لدى محكمة الاستئناف والمحاكم المغربية سنة 1952. عاش الجزء الأكبر من حياته  بمدينة برشيد ، وتركها  عجوزا سنة 1967.ولما كان يضع  فوطة  حول عنقه و يتجول في الشارع والجو حار، سأله أحد  المارة: " علاش تدير الفوطة  والحال سخون مسيو لامار؟  فاجابه: " أنا يجي شيباني أنا".


أنجز الدكتور دولامار عمليات جراحية خطيرة أنقدت عشرات الأرواح،  من أشهرها العملية التي أجراها  للمدعو أحمد الدكالي، من سكان القيسارية.  خلال فترة من التاريخ،  تم فرض العزل على المصابين بداء الكوليرا في منطقة عبارة، على أرض لا تزال تتحمل اسم " بلاد بوكليب"، في ملكية أولاد الشيخ ولد الركيك. وكان الدكتور دولامار يجد مشكلا  مع سكان دوار الدرانة   بسبب عدم احترامهم التوجيهات الطبية، فكانوا يذهبون إلى السوق الأسبوعي، غير عابئين  باحتمال الإصابة بالعدوى الناجمة عن الاختلاط. من أطفال ذلك الزمان، وهم اليوم  تتجاوز أعمارهم الستين سنة،  الدين يتذكرون عمليات  قام بها الدكتور دولامار لفائدتهم، الحاج عبد الله عفري والحبشي عبد السلام، من أولاد القيسارية. قال دولامار لوالد هدا الأخير: " يمشي لا مار ما يبقى والو والو".   قبل  مجيء دو لامار لم تكن غير التعويذات والأحجبة وزيارة الأولياء, و بعد رحيل  لامار؟  الحالة غير القابلة للوصف يعرفها الجميع. هو كان يعرف ذلك.


 أنجب الدكتور دولامار ثلاثة أطفــال ببرشيد وهم: فرانســواز، مونيك ،  والدكتور إبف ، الطبيب  المختص في جراحة العيون. توفيت مونيك في عمر الزهور سنة  1936  أثناء زيارة عائلية لمدينة روان، وتوفيت  فرانسواز مؤخرا في شهر أبريل 2014، وكانت اشتعلت مدرسة بالمدرسة الإسلامية ببرشيد.


لكل إنسان، في ثنايا دفاتره، قصص وحكايات وأحداث يومية  تشكل تاريخ هذه المدينة المستعصي  عن الكتابة. مأزق مثقفي برشيد أنهم يحكون ولا يكتبون. قال لنا أحد أبناء  الممرض السي أحمد الجوالي نقلا عن المرحومة والدته،  أن  أباه   كان  ذات مرة، ملزما  بالاشتغال في الديمومة  المصادفة  ليوم عيد الأضحى.  فلم يذهب إلى العمل، وبقي في المنزل لنحر الأضحية.   لكن الطبيب دولامار  جاء  واصطحبه  إلى المستشفى، وهو يقول:  " ضع نفسك مكان أي مريض يأتي خلال  يوم العيد  إلى المستعجلات ولا يجد  من يقدم له الإسعافات الضرورية".


 تم تعيين  السيد أحمد بن محمد بن الفقيه الجوالي  كممرض بالمستشفى الأهلي سنة 1948، و يرجع الفضل إلى الدكتور دولامار في تدريبه على التخدير للمساعدة  على القيام  بالعمليات الجراحية،  وكان  يحثه على التعامل مع المريض كأخ  وليس  كمريض.


ويحكي لنا السيد م.س، صاحب مكتبة  ببرشيد، أنه أصيب بداء الزهري وهو  في سن المراهقة، ما قبل الزواج، خلال سنة 1947. فقصد المستشفى للعلاج،  حيث أخد منه الممرض حمو أبو الفتح عينة من البول لأجل التحاليل، وأخبره أن الدكتور سيسأله عن اسم وعنوان الطرف المعدي،  من أجل القضاء على الداء في منبعه.  أصيب م.س  بالذعر  وغادر المستشفى دون العلاج خوفا من مواجهة الدكتور دولامار. هذا الأخير، فطن لاختفائه وسأل عنه. وعلى الفور، خلع بذلة العمل، وذهب  للقيسارية بحثا عن المريض.  جاء عند جاره السي عمار بائع الحلوى،  خلف مكتب البريد، ولم يكن له أولاد،  وقال له عليك بإحضار ابنك في الحال إلى المستشفى، فهو يحمل مرضا معديا. 


كان الشاب م.س يقف أحيانا بباب جاره  السي عمار(قبل مقهى السعيدي)، ولما كان الطببيب يمر باستمرار من المكان، في برشيد الصغيرة، فقد رسم له  صورة في دهنه،   معتقدا أنه ابنه. يـقول  لنا م.س : اختفيت تسعة أيام عن الأنظار  على أمل أن الدكتور دولامار سينسى الأمر، وفي اليوم العاشر فتحت دكاني، فإذا به واقفا أمامي. حملني للمستشفى الأهلي، وأمر بإحضار الطرف المعدي فورا  من فندق الكنفود، من أجل تلقي العلاج، حتى لا ينتشر الداء. 


كان الدكتور دولامار يعرف وجوه الصغار،  وأسرار  الكبار أيضا. ذات مرة، ذهب لمعالجة أحد كبار أولاد حريز وهو  على فراش المرض بضيعته. فأثار انتباهه بنات صغيرات يلعبن بالجوار، وسأل عمن تكون. قيل له، هن بنات صاحب الدار ، فأجاب بتلقائية: " نو  نو ،  ثلاثة ما  يجيبش  أولاد : مخمد، ادغيس، بوطرغبوش".


كان  يعيش ببرشيد رجلا مرحا وبدون عقد، معروفا بالقجمة،  اسمه حمو باري، حرفته خضار، يبيع ويشتري في البصل. في كل صباح،  يأتي راكبا على  حماره من لحباشة إلى حانوته بالقيسارية. كان الرجل مريضا بالبواسير، وله حساسية في بعض أجزاء جسده. عندما يباغته شخص ويضع يده تحت إبطه،   يقفز من مكانه ويقذف " طلقات نارية" من دبره.


ذات مرة، ذهب حمو باري عند الدكتور دولامار لعلاج البواسير، فطلب منه أن ينطوي راكعا ويمسك قدميه بديه، ثم  وقف خلفه ورفع  عنه الجلباب كي يعاين أورامه ( هز ليه الكابو  من اللور) . وقال له: " دير تش"، وكان يقصد بذلك "انفخ بطنك".  لم يقم  حمو باري بأية حركة لأنه يفهم ما يطلبه منه الطبيب،  فوضع الممرض ولد الحاج عمرو يده تحت إبطه، حتى  حنقز وأرسل أعيرة نارية متتالية في وجه الدكتور (طلق عليه الرشاشة). تراجع هدا الأخير  خطوات إلى الخلف وركل المريض بقدمه على مؤخرته حتى ارتمى على الأرض، وهو يقول : " حماغ،  أنا نكول دير تش، وأنت دير طز".


 عندما كان يقال  لحمو باري: مال  لا مار أعطاك البوينتة،  كان يجيب ضاحكا:  " ما  تكون  عا شي نخالة طارت ليه في عينو".

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية