عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

الديمقراطية الملتبسة

الديمقراطية الملتبسة

Sans titre - Copie


الديمقراطية الملتبسة


تقديم:


    تحت هذا العنوان المثير، يكتب لوس كيليرمان، مهندس بحث بالمركز الوطني للبحث الاجتماعي بفرنسا، مقالة موجزة ومكثفة، يقدم فيها قراءة محايثة في كتاب" المتاهة: من أجل الإنهاء مع القرن العشرين"، منشورات فايار، فرنسا،1995، لصاحبه المفكر الأنثروبولوجي الفرنسي المعاصر جورج بالاندييه، الذي يضع، من خلاله، مبضع التشريح السوسيولوجي على الديمقراطية، محاولا تشخيص أمراض أو أعطاب هذا النظام السياسي والاجتماعي، القديم والجديد دوما، والمعمم أكثر من اللازم (عل مستوى الخطاب والتقنية)، والذي ما فتئ يثير شهية الحاكمين والمحكومين معا...دون الوصول الكمال النهائي، مادامت الديمقراطية تطرح نفسها دائما، كوسيلة وغاية، من أجل المجتمع والدولة معا...لنقرأ مقال لوس كيليرمان، بكل تأن وتمعن، محاولين إسقاط منظوراتها على واقعنا السياسي العربي المعاصر"الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى":


نص المقال:


     بعد أن بين، في متابعته لانهيار المعسكر السوفياتي، حجم صعوبة وجود الديمقراطية في الشرق، يدير الكاتب وجهه صوب الغرب، حيث صعوبة الحفاظ على الديمقراطية. ففي مجتمعات ابتكارية، ونشيطة بفعل المنافسة والأداء والربح، يساء إلى معاملة الديمقراطية من طرف عدة حركات. فكل شيء غدا معقدا، وغير مستقر. وما هو غير متوقع ينشأ في كل مكان.


    إن تدبير هذه الحركة وتوجهها الأقل ظلما، يشكل اليوم تحديا كبيرا. ولأن "الممارسة الديمقراطية في جوهرها غير نهائية، وهي مفتوحة دوما"، فإنه من المهم جدا، تركها تنمي العقل أو الحس النقدي، و تنظر، بشكل مشرق وإيجابي، إلى نقط الضعف فيها. وما دامت الديمقراطية التعددية تميل إلى "تخدير العدوانية المحلية"، فإنها قلقة أو مضطربة.


     إن ما تعاني منه الديمقراطية هو، أولا وقبل كل شيء، اللامبالاة، وتأثير العادة (فالديمقراطية واضحة)، إنها تعاني، بالخصوص، من انطواء أو انكفاء الفرد على ذاته. ذلك أن الالتزام الشخصي لا يتم باسم القيم المجردة، ولكنه يتم، في الغالب، لصالح الأفعال الملموسة والإجراءات المحدودة والمحددة. إن تمرين المواطنة (يوجد) في نكسة.


    إن الديمقراطية تعاني، أيضا، من الشك في فعالية الأجهزة السياسية في مواجهتها لتعقد المشاكل، كما تعاني من الشك في مدى إرادة أو استعداد الحاكمين للحفاظ على "كلام حقيقي" مع المحكومين، ومن تنامي الوعي بأن النظام السياسي يعمل أو يشتغل على تمرير وتمديد الكذب، مع العلم" أن الديمقراطية في جوهرها يجب أن تكون فاضلة". ومن اللامبالاة التي أخذت طريقها في التعميم، ويعلن عنها اليوم أيضا، فقدان النضالية. ولكن، حتى الآن، إنهم أفراد الطبقة السياسية والناس الذين يعملون السياسة، هم المستهدفون من هذا الهجوم، وليس النظام في حد ذاته. إننا نشهد إذن، نوعا من "الانحراف" المعاش لا كتطور للحرية الفردية، بل كنوع من اللايقين، المتعلق بالأوساط السياسية، وبوجوهها الغامضة في دواليب السلط غير المراقبة. إن الإنسان المعاصر يحاول أن يفهم، ولكنه غالبا ما يصطدم، هنا، بعدة متاهات. إن الأمر، إذن، يتعلق ب" فردانية افتراضية (بالفعل)، أكثر منها فردانية بالإرادة (أو بالقوة).


    كثيرا ما يطرح السؤال بالعودة إلى الفاعل (السياسي)، وإلى أنساق التفكير والإيديولوجيات التي أطاحت بهذا الفاعل، ولكن لا يمكننا إلا أن ننظر إلى الضعف الهوياتي للذوات الفردية والجماعية أو إلى انتهازية هذه الذوات، أو، بشكل أكثر مرارة، إلى عتاقة (أو تخلف) انخراطات والتزامات هذه الذوات نفسها. أكثر من ذلك، ومن وجهة نظر الديمقراطية نفسها، نجد أن ذواتا أقل تحديدا أو محددة زورا، لا تنتج فاعلين سياسيين مقتنعين أو حالين للمشاكل، ذواتا بقدر ما تريد إحياء أو بعث الديمقراطية، بالرجوع أو العودة إلى قوى الماضي، بقدر ما تجري في طريق إطلاق العنان للعنف والعنف المضاد، وجعلهما في خطر حاد (النزعات الوطنية، والاستبدادية، والأصولية).


    إن الديمقراطية تعاني، أيضا، من محو النخب. ذلك أن الفاعلين الأساسيين فيها، سرعان ما يصبحون هم الاحترافيون والمنظمون، أي أولئك الذين يمتلكون المعرفة والخبرة: خبرة الإنجاز، واكتساب معرفة الربح والقدرة على التواصل. إن المثقفين لا يساهمون، بشكل واضح وجلي، في النقاش الديمقراطي. إن الديمقراطية تعاني من هذه النكسة، وأيضا من السلطة المفرطة التي يتملكها بعض المفكرين التكنوقراطيين  (بعض المثقفين، وزعماء الرأي، والسياسيين). إن المشهد الثقافي هو في كل الأحوال، مشهد ملتبس ، مثله مثل الفضاء أو المجال العمومي.


    إن التمرين على الديمقراطية، هو في نهاية المطاف، تمرين مشوه بواسطة التمثيل الوسائطي= (الظهور عبر وسائل الإعلام السمعي البصري بالخصوص)، الموجود في كل مكان من الحياة السياسية. وأن مسرحته الثابتة تنسينا، أو تخفي عنا، الأسس الحقيقية للسيادة الشعبية. كما أن الآصرة الاجتماعية، الذي ينبغي لها أن تربط المنتخبين بالناخبين، توجد هي الأخرى مشوهة أيضا. إن الحاكمين يوجدون تحت تبعية، شبه كلية، للصورة، لأنهم حاضرون فوق خشبة المسرح السياسي.إنه فن الفاعل=(بالمعنى المسرحي للمصطلح)، الذي يعتبر أن مضمون فكر الفاعل السياسي وقدراته، هي أشياء إبداعية أو ابتكارية. لقد غدا الانشغال المتزايد بالإغراء أو الإغواء هو القاعدة. لقد أصبح رجل السياسة، مثله في ذلك، مثل نجوم الشاشة الصغيرة، واجبا عليه أن يكون قادرا على إتقان المؤهلات الوسائطية، في حين أن المحكومين ما هم إلا مواطنون متفرجون فقط أو ليس إلا، ولا يلجون إلا لماما، أو بشكل موسمي، الوجود الوسائطي، أثناء المناقشات أو الندوات السياسية المتلفزة. وهذا الأمر، في حد ذاته، لا يكون سببا كافيا  للانخراط في ممارسة الديمقراطية، ذلك أن التفاعل (الوسائطي) لا ينتج إلا تأثيرات محدودة، وتمرين الديمقراطية يتعارض مع "التخدير القنواتي (التلفزيوني) للحياة السياسية"=. وبالتالي، فإن الديمقراطية لا يمكن لها أن تصان وتتطور، إلا إذا ما هي تجنبت التعرض الوسائطي المفرط، الذي قد يساهم في حلها (أو تفكيكها ونسفها).


     فخ آخر يوجد أيضا، وهو توسع النظام التكنوقراطي الذي يتوفر على شبكات غامضة، ولكنها غير حقيقية. ذلك أن الفاعلين هنا، هم الخبراء الحاملون لفضائل الكفاءة، وأضواء المعرفة والعقل، والذين في وسعهم، وفي أي وقت، ــ باسم علمهم أو بالأحرى تشريعات علمهم ــ إما أن يطلقوا أو يعرقلوا مشاريع للنجاح.


     وبالجملة، يمكننا التمييز بين ثلاث مكونات أو تشكيلات لمجالات أو فضاءات السلطة: مجال المنظمين، ومجال المسيرين، ثم مجال الخبراء المدعوين إلى عرض وإثبات كفاءاتهم، أي مجال القائمين على الاتصال، حيث أن "الواقعي يتم تشكيله بواسطة الإعلام، والكلام، والصورة والمسرحة، وحيث " تسود الرؤية المتعلقة حصرا بتوسيع المجالين الآخرين للسياسة، المتجلية في امتلاك الفاعل السياسي لما يشبه الوجود الصوفي. إن وظيفة الأسطورة، والرمز، والطقوس، كقيم جماعية مرفوع من شأنها، والعواطف أو الانفعالات التي تولدها، هي تحقيق التساند والاتحاد، من خلال خلق مزيد من التضامن على نطاق أوسع. إنها تدعم وتقوي مجموع العقد السياسي الذي يحدد، قانونيا، الرابطة بين الحاكمين والمحكومين. وفي هذا المجال، الذي يوجد خارج المشهد، يجب أن تنشأ الديمقراطية. ولكنه اليوم، وإن كان مجالا يتقلص فيه التعدي، فإنه، مع ذلك، يوجد ممزقا بين التشتت والعولمة. إن مسارات الأمور اليوم، تفكك السياسة، وبالتالي، فالحاجة جد ملحة لتعويض هذه الأخيرة، بشحنات جديدة وطاقات متجددة. إن دعوات الصحوة المدنية، المطالبة بتعزيز أسس المواطنة، ونداءات الدعوة إلى ضرورة اليقظة والحذر، لا تكفي لوحدها. فالديمقراطية مرتبكة، حسب البعض، بل إنها مريضة حسب البعض الآخر. ولكنها، وعلى الرغم مع ذلك، فإنها لوحدها، ولأنها دوما غير مكتملة، يمكنها أن توفر، اليوم، وسيلة لإعادة تشكيل الحياة الاجتماعية، على أساس مقبول لأكبر عدد من الناس.


مقالة لوس كيليرمان،مهندس بحث،وعضو مؤسس لجمعية البحث التعاوني الدولي بفرنسا


ترجمة وتقديم: التهامي حبشي، إعلامي وباحث في مجال السوسيولوجيا والاتصال بالمغرب


Source :Balandier Georges,Le dédale :pour finir avec le XXème siècle, FAYARD,1994,France

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية