عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

الحلقة 2 : قراءات في فن الساكن الشعبي ( رواد وخصوصيات فن الوترة الشاوية) .

الحلقة 2 : قراءات في فن الساكن الشعبي ( رواد وخصوصيات فن الوترة الشاوية) .

4 ــ رواد وخصوصيات فن الوترة الشاوية
بقلم الباحث التهامي الحبشي
لقد كانت إحدى وصايا الباحث الفريد الفقيد محمد بوحميد في أعقاب المهرجان الوطني الأول لفن العيطة بآسفي، صيف 2001، هي ضرورة الإنتقال في إطار البحث في هذا الفن الشعبي، من مرحلة العموميات والوصف والتصنيف والتحقيب التاريخي العام، إلى مرحلة البحث المركز الذي يتوخى دراسة الوحدات عبر تفكيكها والتعمق في جزئياتها، من أجل خلق أدبيات تضيف أشياء جديدة إلى البحث في تراث العيطة.
ومن هذا المنطلق والمنظور، وعملا بهذه الوصية التاريخية، نروم الوقوف على جزئية من العيطة المرساوية المركبة، كما تداولتها ألسن الشيخات والأشياخ وعزفتها آلاتهم الموسيقية بمنطقة المرس، وما جاورها من مناطق الحصبة ودكالة وزعير وورديغة وتادلة وبني ملال. يتعلق الأمرهنا بما يمكن أن نسميه بالنغمة الحريزية، أو بفن الوترة الفقرية، نسبة إلى فخذة عربية من إتحادية قبائل أولاد حريز المختلطة ( من الخلط كما ذكر إبن خلدون )، والتي جاءت إلى الشاوية من منطقة تادلة في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي؛ وهي فخذة الفقرا أولاد علال وأولاد عبد الله من أولاد يوسف المنحدرين من أولاد سيدي عمر بلحسن بن قاسم من سيدي عيسى بن إدريس دفين آيت عتاب بتادلة، وهم من الأدارسة، على حد زعمهم، ويدعون الإنتساب إلى مولاي عبد القادر الجيلالي دفين بغداد. واليوم، يستقر ما تبقى من فقراء أبناء سيدي عثمان وسيدي عبد الله وسيدي علال بالمنطقة الجنوبية الشرقية الممتدة بين برشيد وسطات في إتجاه إبن أحمد وعلى الحدود مع فخذة ارياح وقبيلة امزاب، وهم يمارسون في غالبيتهم الفلاحة والجزارة، ويميلون إلى الولع الشديد بفن الوترة وغناء الساكن، خاصة كما أداه ويؤديه بعض شيوخهم المحليين الذين نذكر منهم على سبيل التذكار وحفظ الذاكرة الشعبية المحلية:
ــ الشيخ العازف على آلة الفحل/ الليرة، المرحوم ولد اموينة وفرقته الرجالية المعروفة بجيلالة أو عيساوة، وهو ينحدرمن قبيلة الفقرا أولاد عمرو أولاد عبد الله، الممتدة شرق قصبة/ مدينة برشيد.
ــ الشيخ العازف على آلة الفحل/ الليرة المرحوم عمر الموكي، رفقة الشيخة المرحومة الخادم الكبيرة والشيخة ضونا والشيخ عبد القادر الكريني؛ وهو ينتسب إلى قبيلة الفقرا أولاد علال الموجودة غرب قصبة/ مدينة برشيد.
والملاحظ أن النغم العيطي الحريزي قد ارتبط ظهوره باستعمال آلة الليرة/ الفحل أو "القصبة" الخماسية الثقوب، أو آلات النفخ "المكرونات" ذات المخرجين الصوتيين أو "الغيطة" ذات المخارج الموسيقية الدقيقة، كما نجدها عند فرقة أولاد شبانة الرجالية بمنطقة بن أحمد المتاخمة للحدود مع أولاد حريز أو عند فرق "الطبالة والغياطة" المعروفة بالعزف في حفلات الزفاف. وتجد هذه الظاهرة تفسيرها في وصول العناصر العربية الهلالية إلى البطون الأطلسية، أي منطقة الشاوية أو تامسنا قديما، وذلك على عهد إبي يعقوب المنصور الموحدي، حيث دخلوا، حسب ما يذكره عبد الواحد المراكشي في ((المعجب في تلخيص أخبار المغرب)) بمجموعة من الآلات منها الليرة والدف والطنبور، وأيضا الرباب، ذي الوتر الواحد الذي يخرج سلما خماسيا، وكانوا يحكون ملاحمهم وسيرهم بهذه الآلات، وخاصة سيرتهم المعروفة ب" سيرة بني هلال".)). لذلك فنحن نرى في السواكن المؤداة حتى عهد قريب في شكل فرق رجالية باستعمال الليرة والدف أو الغيطة والطبول، ثم بالوتر والبندير، فيما بعد، بقايا عيوط وجوابات هلالية امتزجت ببعض الأحواشات والأحيدوسات الأمازيغية الأصل والمعربة فيما بعد في شكل فرجات وحبات اعبيدات الرمى، والمؤداة على سلم موسيقي خماسي وإيقاعات بقيت آثارها بادية في متون وموازين الساكن حتى اليوم، كما أداها ويؤديها رواد النغمة الحريزية من أمثال:الشيخ لحميدي السعيدي معلم المرحوم علي البصيلي، والشيخ عمر بلحاج الفقري رفقة الشيخ أحمد الفقري، والشيخ بن الجيلالي رفقة حمادي والثلاثي على البصيلي وعلي ولد جرانة والحطاب، المعروف بعلي وعلي والحطاب، ثم من تلاهم فيما بعد من تلامذتهم المجددين والمحدثين...مثلما نجد في هياكل الغناء الحريزي، بحكم علاقات الجوار الجغرافي والتفاعل الثقافي، بعض المفاصل الأساسية ذات الحبة الزعرية والنغمة الخريبكية والسماعلية، ذات براويل أو مقاطع غنائية بسيطة وقصيرة (بومقلاع)، شبيهة بفن بدوي شبه بدائي قديم، هو غناء الهوير ـ نسبة إلى موطنه هوارة ـ كلون بسيط من الطرب، كما يرى الفقيد محمد بوحميد، والذي لا تستعمل فيه الآلات الوترية المعقدة بل يرتكز على آلة "المكرونات"، وهي ليرة ذات مخرجين، تصدر صوتا بدائيا يتلاءم مع طبيعة الموضوعات الفطرية التي يتغنى بها فن الهوير المتميز بالإرتجال، وغياب وحدة الموضوع، وإستقلال البيت الواحد بفكرته..مما يجعله يعاني من غياب الإنسجام والإتساق المفروض توفره في كل كلام شعري أو إنشاد عيطي. هذا علاوة على اعتماد فن الهوير، إلى جانب الليرة،على الإيقاعات التقليدية كالطعريجة والبندير وأكوال...والظاهر أن هذا الغناء الفطري والرجالي ـــ مما يدل على أن العيطة في أصلها غناء رجالي، عكس ما يقول جورج لاباساد من أن العيطة تغنى من طرف النساء اللواتي ينادين ــ..قد تطور عبر الزمن و أخذ يكتسي مظهرا أكثر تعقيدا، سواء من حيث الإيقاع والميزان، الذي أصبح يتجاوز العتبة الواحدة إلى التنويعات الغنائية المتعددة، أو من حيث المتن الذي غادر منطقة البروال البسيط القائم على الأبيات المفردة( الحب أو بومقلاع) ليشكل مقطوعة منسجمة ومكتفية بموضوعها(أنظر حسن بحراوي،ص.ص.13/14)، كما نجد ذلك في مقطوعة"الساكن" الذي ماهو إلا بروال عيطي صوفي يقف في المقام الوسط بين البروال القصير والعيطة الطويلة والمركبة. وقد استعمل أداء الساكن بالليرة والبندير في التجربة الطبنفسية المغربية لعلاج بعض الإضطربات النفسية والإختلالات العقلية، ونشير هنا إلى تجربة الدكتور عبد الله زيوزيو بمستشفى الأمراض العقلية ببرشيد، والذي أقام تظاهرة ثقافية داخل هذا المستشفى سنة 1981، سمح خلالها للمرضى بالرقص والطرب والغناء على إيقاعات السواكن التي أدتها بمهارة نادرة فرقة العازف الماهر المرحوم عمر الموكي والشيخة الخادم الكبيرة؛ وهو ما ترك انطباعا طيبا وأثرا بالغا في نفوس النزلاء..
ــ ومن الأشياخ الأوائل في فن الوتار بربوع الشاوية ورديغة، نجد الثنائي هدي ولد العمرانية وبريول،هما من شيوخ العيطة بالمرس خلال الثلاتينيات من القرن الماضي، سجلا بالإذاعة المغربية سنة 1948 عيطة "كبت الخيل على الخيل''، وبعض السواكن والبراويل..
ــ الثنائي ولد حمو مع ولد مو، اللذان ظلا يعزفان العيطة بربوع المرس والشاوية منذ الخمسينيات.
ــ الثنائي صالح والمكي، المعروف بقصيدته المشهورة "الهوى زعري"، وقد ظلا يعزفان حتى منتصف الستينيات، بعدما غادر صالح المغرب إلى ديار الهجرة بالخارج، في حين ظل المكي لوحده يعانق الوتر مرددا شذرات قصيدة العلوة الحزينة.
ــ الثنائي عبد الكبير البهلول و.....الذي اشتهر بقصيدة"عام البون" للإشارة إلى المجاعة الناتجة عن الجفاف الذي اجتاح المغرب سنة 1945، حيث اضطر الناس إلى الوقوف في الطوابير وحمل البونات للحصول على حصص الدقيق والسكر والشاي والزيت..
ــ الثنائي قرزز ومحراش، الذي اشتهر في نفس الفترة وخلال السبعينيات بقصيدته الرائعة حول الدراجة المسروقة بالمدينة.
ــ الثنائي احديدو والحسناوي، صاحب قصيدة "الأولياء الصالحين".
ــ الثنائي امحمد البهلول ومحمد البهلول، ثم الثنائي العوني والبهلول، صاحب قصيدة "العوني والبنت والسجن"، وكلاهما من منطقة البهالة بقبيلة أولاد حريز المتاخمة لقبيلة امزاب.
ــ والثنائي عبد السلام وشيبوب صاحب قصيدة" مقتل السائق ومساعده" المشهورة، والتي مطلعها:" بين فيني والملاح/ نهار الإثنين في الصباح/ طاحو جوج رواح".
ــ الثلاثي الشرفاء البهالة: المير الكبير وفاكس، الأول عازف على الوتر والثاني على البندير والثالث على الطعريجة. وقد تميزوا بأداء سواكن العلوة ومولاي عمر وحبات الزعري بإتقان خلال السبعينيات.
ــ الثنائي المرحوم التهامي السالمي وأحمد السالمي، المنحدران من منطقة السوالم بأولاد حريز الغربية على الجنوب الغربي من مدينة الدار البيضاء. وكانا قد سجلا منذ الستينيات وخلال السبعينيات عيوطا مرساوية وسواكن وقصائد رائعة. من قبيل"ساكن مولاي عبد الله بني مغار" الذي يعود إليه وإن اشتهرت بأدائه الشيخة الطباعة المرحومة فاطنة بنت الحسين، وقصيدة سكر النسر و..وقصيدة مطيشة لاسير وعجاج سنة 1977. وقد ظل المرحوم التهامي السالمي لوحده يطوف المواسم والأسواق، بمناطق أولاد جرار والخيايطة والسوالم واشتوكة ودكالة حتى تخوم عبدة، معانقا وتره وناشدا براويله بصوت شجي، إلى أن وافته المنية في نهاية الثمانينيات..وبقي هناك زميله أحمد السالمي.
ــ الشيخ المرحوم احماين العازف على آلة لوتار، وهو معلم الشيخ البصيلي الذي قال في رثائه حبته المعروفة:" بين قداحة واشبوكة/ تم حماين تراكا" في إشارة منه إلى مكان ترك أودفن معلمه احماين.
ــ الثلاثي المرحوم علي وعلي والحطاب مع العبوشي. الأول هو علي البصيلي بالوتار والثاني هوعلي ولدجرانة بالبندير والثالث هو الحطاب بالطعريجة، وقد ظل هذا الثالوث الأصيل منذ الستينيات يعزف السواكن و النغمة الحريزية والبراويل الزعرية، متنقلين بين أسواق ومواسم الشاوية ودكالة والحوز وزعير وتادلة وبني ملال وبني خيران وعكراش والغرب...إلى أن توفي منهم في السبعينيات على إثر حادثة سير مميتة بإبن جرير المرحوم علي ولد جرانة. يقول الثلاثي الفقراء: ولد الحطاب،العبوشي وبوشبشوب، الذي خلفهم في رثاء آبائهم وروادهم:" مني لحكوا لبن جرير/ لحديدة ولات طير...جاتوا الدقة في الراس/ علي مات سير بلاص...جاوا صحاب الروت/ قيدوا لا فوت/علوان ساير يموت...".
ــ الثنائي بنجيلالي وعلي البصيلي؛ والثلاثي بوشبشوب وولد الحطاب والعبوشي؛ والثلاثي بن الجيلالي والمرحوم علي والمرحوم الحطاب؛ وقد تميز بنجيلالي بعزفه الماهر على آلة وتار سويسي سلك من الحرير، كما تميز صحبة المسمى علي ولد جرانة بالضرب على آلة البندير، التي أبدع فيها هذا الأخير ما يسمى بالمقلوب أو "الدردابي"، حيث يتم قلب الطارة/ البندير ووضعها بين الركبتين والضرب عليها بالمكفي، وخاصة أثناء تأدية ساكن مهزوز لفائدة سيدة فقيرة لا تصل مرحلة الحال إلا بسماعها للطارة بالمكفي. وهناك أيضا الثلاثي الفقراء: ولد الحطاب، العبوشي وبوشبشوب، ثم الثلاثي الشيخ سلهم وحمادي لكبير، وهؤلاء ومن سبقهم من أبناء فخذة الفقرا من قبيلة أولاد حريز شرق مدينة برشيد.
ولابد من الإشارة إلى بعض الشيوخ المجاورين لفن الوترة بمنطقة أولاد حريز، وفي مقدمتهم الثنائي "قشبال وزروال" من منطقة أولاد بوزيري بسطات، واللذين أديا العيوط منذ منتصف الستينيات وسجلا بالإذاعة الوطنية خلال السبعينيات، وظلا يطلان على الجمهور من خلال شاشة تلفزة دار البريهي بالرباط في زمن مخزنة العيطة وفلكرتها وتمييعها للقول:" العام زين" مع وزير الداخلية في الإعلام الراحل إدريس البصري. حيث عرف قشبال وزروال بلقب "الثنائي السعيد" الذي يتحف المتفرجين بوصلات فكاهية ساخرة، وبأداء ساكن العلوة وقصيدة" التفجيجة" التي يقوم من خلالها هذا الثنائي بجولة سياحية عبر مختلف مدن وجهات المملكة. كما نجد بمنطقة امزاب الشيخ الفريد العازف على آلة الوتر سي أحمد ولد قدور الملقب ب"شايب راسو" والمزداد سنة 1937 قرب قصبة ابن أحمد، المعروف بأدائه المتقن لفن الساكن وعلى رأسه، ملحمة العلوة وساكن العمراوية أو سيدي عمر بلحسن، وكذا لحبات رائعة من الزعري ومن الغناء الخريبكي والسماعلي. وكان قد سجل أول شريط غنائي له عند الساخي ديسك سنة 1975/1976. ومن الوقتيين نجد أيضا الثنائي الساخر أولاد غنو، والثنائي الفكاهي خلوق ولعريش، والثنائي الفكاهي لهناواة، ثم الثنائي الساخرأولاد الرحالي: التهامي وعبد الهادي، المنحدرين من منطقة امزاب والمعروفين بالتجوال في المواسم والأسواق والمقاهي بالبيضاء وأحوازها لأداء فن الحلقة والنكتة الساخرة، وعزف بعض العيوط والسواكن النادرة. سيرا على معلمهم من الرواد الأوائل الشيخ العازف على آلة الوتار المرحوم الحسناوي المتوفى في نهاية التسعينيات، والذي كان قد اشتهر بنغمه ونكته بصحبة الشيخ احديدو، وأدى معه قصيدة "الأولياء الصالحين". ثم برفقة الشيخ قرزز قبل إفتراق هذا الأخير عن الشيخ المرحوم محراش. وقبل ذلك الشيخ الماهر المرحوم خليفة العازف لوحده، بسخرية أحيانا وبمهارة مائزة في أحيايين أخرى، على آلة الكمنجة، والمعروف بقصيدته الساخرة عن" الموت"، وببعض عيوطه النادرة كعيطة "مولى دورين"، الذي هو أغلب الظن ولي ركراكي دفين بلاد الحصبة أوالشياظمة، وهي العيطة التي يقول فيها:" آ ولدت وليدي/ وسميتو عليك/ آمولى دورين آهيا...يوم الجمعة يوم لثلاث/ يخرجوا لبنات الحاجبات/ آمولى دورين آهيا/ رميت العار على ركراكة لحرار/ أمولى دورين آهيبا..." تلك القصائد والعيوط والقفشات الساخرة التي ظل الشيخ خليفة يجوب بها حلقات كاريان الحجر بالحي المحمدي بالدار البيضاء، وأسواق ومواسم الشاوية ودكالة وعبدة واحمر..إلى أن وافته المنية في نهاية التسعينيات من القرن الذي ودعناه.
ومن الأشياخ المحدثين والمتميزين في فن الوترة الحريزية وأداء الساكن والحب الزعري، على طريقة الثنائي العازف على آلة الوتر/ الوتار أو الكنبري وآلة الدف /البندير أو الطعريجة، نذكر: الثنائي العيدي والعوني امحمد، والثنائي العيدي والعماري، والثنائي العيدي وحمادي، والثلاثي أولاد بنجيلالي، وهم أبناء المرحوم العازف على آلة الوتار/السويسي الشيخ بنجيلالي رفيق علي وعلي والحطاب رحمهم الله جميعا. والثنائي حمادي وبن الجيلالي. ثم الثنائي عبد القادر اكريجة على آلة أوتار سلك على الحرير ومحمد جيوكي على آلتي الطعريجة والبندير. والثلاثي عبد الخالق الفقري ، على آلة أوتار/ سويسي سلك من الحرير، والكبير العبوشي رفيق بنجيلالي والحطاب وشبشوب رحمههم الله، وعبد القادر الكريني، الذي اشتغل مع المرحوم عمر الموكي، وهو عازف ماهر على آلة البندير بإيقاعات عيساوية وجيلالية. والثلاثي لبصير، مصطفى على آلة أوتار رباعي منها سلكان بالحرير، ومصطفى وعلي العازفان على آلتي البندير بإيقاع كناوي حمدوشي. وهؤلاء هم من المتأخرين اللذين لا يزالون يحملون إيقاعات ونغمات فن الوترة الحريزية الممزوج بالسواكن والحبات الزعرية والإستهلالات المرساوية والحصباوية والإنصرافات الحوزية والحمدوشية، ويطربون به الناس، عند الطلب في المواسم والأفراح والأعراس، بمدينة برشيد وما جاورها من مدن كالدارالبيضاء وخريبكة والجديدة وسطات والأحواز..
واستنادا إلى مختبر الملاحظة والإستماع، يمكن القول إن الغناء الحريزي، هو نمط فرعي من الغناء القروي العيطي ، الذي ينتسب إلى قبائل أولاد حريز وموطنها قلب سهول الشاوية المعروفة بتربة التيرس الخصبة، ومركزها مدينة برشيد وأحوازها من الشرق؛ (أولاد حريزالشرقية) الممتدة إلى حدود مدينتي الكارة/ قبائل المذاكرة وأولاد زيان وإبن أحمد/ قبائل امزاب؛ ثم غرب برشيد (أولاد حريز الغربية) الممتدة من سيدي المكي وأولاد صالح والغنيميين والساحل والخيايطة والسوالم وسيدي رحال، إلى حدود اشتوكة ودكالة. وهو لون غنائي شعبي يمكن تصنيفه ضمن ريبرتوار العيطة. لأنه، وكما اكتشفنا ذلك، صحبة الفقيد محمد بوحميد والزميل المهدي الكراوي، ضمن فعاليات المهرجان الرابع لمدينة برشيد في صيف 2001؛ ((..يشكل حلقة فريدة شبه مجهولة ضمن سلسلة الحلقات التراثية المكونة للغناء العيطي بالمغرب، وذلك نظرا لخصوصية حفاظه على إيقاع وغناء الساكن من جهة، واعتبارهما أساس تشكل هويته)) (أنظر: المهدي الكراوي، جريدة الإتحاد الإشتراكي، عدد06 شتنبر 2002). وهوغناء يمكن تصنيفه وإدخاله ضمن إطار العيطة المرساوية التي يبدأ بمشاليات منها كعيطة" الحداويات" أو "التهامي" وعيطة" ما شفتو شامة آهيا العلامة"، أوعيطة "دامي" وعتوب" الكافرة واغدرتيني"؛ مع عبوره أو مروره إلى عيوط الحصبة، كحطات "خربوشة" والمدسوس من"رجانا في العالي" و"كبت الخيل على الخيل"، حتى وإن خرج في الكثير من الأحيان والحطات عن بعض ميلودياتها أو جملها الموسيقية المتميزة والدقيقة، وعن عيطاتها الطويلة والمركبة من القطيبات والفصول والقفل أو السدة أو السوسية؛ وصولا إلى سواكن الحضرة كساكن "مولاي عمرو: أو"عمراوية" وساكن "بوعبيد الشرقي" و"بنحسين" وساكن "الحبشي"أو"ريشة بيضا بين جناحو" و"مولاي إبراهيم"...ثم تعريجا على حبات أو براويل الزعري أو البجعدي (منطقة أبي الجعد) والخريبكي أو السماعلي ( من منطقة السماعلة بواد زم)، وإنتهاء بسرابات أو إنصرافات تؤدي إلى سدات أو سوسيات مرساوية خفيفة ومنخفضة من قبيل:" دابا ربي يعفو على عبادو والناس الحاضرين". وبعد كل هذا ، يمكننا الإستنتاج والقول إن الغناء البدوي الحريزي هو نتاج اختلاجات شتى من ظروف عبيدات الرمى وتقلبات حياتهم إلى أن ابتدعوا محطة الركب، أي التجوال والربط الفرجوي بين البطون الأطلسية من الشاوية إلى دكالة وعبدة وبطاح الحوز، حتى مرتفعات ورديغة وتادلة وزعير وما جاورها.
ومربط الفرس في سواكن مسقط الرأس، أن النغم العيطي الحريزي، ذي الثنائي أو الثلاثي الرجالي ــ مما يدل على أن العيطة في أصلها رجالية وليست نسائية ــ يكاد يتميز باتخذه للساكن كهيكل أساس له، واعتماده على آلة أوتارـ ثلاثي في الغالب، سلك على الحريرـ وآلتي الطعريجة والبندير، في أداء سواكنه وبعض العيوط المرساوية والحصباوية، أو المازجة بين النمط الحصباوي والنمط المرساوي، كعيطة "خربوشة منانة" وعيطة "كبت الخيل" و"كاسي فريد" وعيطة" حاجتي في كريني" تعبيرا منه عن ملك مشترك بين الرواد من شيوخ الحصبة والمرس. وهو في مجمل ما وصل إلينا عبر رواده الأوائل وما استمعنا له من أشرطة صوتية لهم، ومن مختبر المعاينة والمصاحبة الميدانية لبعض شيوخه وعازفيه من الجيل الجديد، غناء بدوي ذو إيقاع موسيقي متدرج، يبدأ هادئا خفيفا ب"الحداويات" أو "التهامي" من المرساوي، وينمو ويتقدم نحو مقام الصبا مهزوزا بغناء "الحصبة" و"حاجتي في كريني" و"رجانا في العالي"..لينتهي ساخنا وقويا بالكناوي أو الحضاري، نسبة إلى "الحضرة" أو "الجذبة" أو"التحييرة" المرتبطة بإنشاد ديني، شبيه بالغناء المقدس/ LE PSAUMEيتغنى بالموت والعقاب والغيب والخالق والأولياء والصالحين، وبكل ما يمت للميثولوجيات أوالأساطير بصلة، ويكون الغناء مرفوقا في الغالب بإيقاع قوي مهزوز وراقص، يهز السواكن ويثير الحال/LE TRANCE والدواخل، فيؤثر في النفوس والوجدان، كما يحرك الرؤوس و الأبدان( ساكن الحال ما يبرى/ نوضو سولو ذوك الشرفا) ..وصولا إلى "الطيوح" حيث يكف الغناء، قبل أن يكف الرقص و الأداء، إلى أن ينحشر(من الحشر/ يوم الحشر كطقس ديني أخروي مقابل الحضرة كطقس دنيوي) الجسد الطقوسي الراقص أو الجاذب على الإيقاع الكناوي أو الحمدوشي (إثنين على أربعة موزعة على دقتين)، في خضم طقس تنفيسي أو تفريجي(من الفرج والفرجة) عن قلق نفسي أو عصبي للجسد الراقص الذكوري منه والأنثوي، حيث تتلاشى سلطة العقل والأنا الأعلى لفائدة ما هو روحي ووجداني متمظهر عبر الأنا والهو، بلغة التحليل النفسي مع سيجموند فريد وبعده جورج لا كان.

الحلقة الأولى من هـــــنـــا

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية