عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

برشيد، أوهام التاريخ والسياسة ( الحلقة 4)

برشيد، أوهام التاريخ والسياسة ( الحلقة 4)

برشيد، أوهام التاريخ والسياسة ( الحلقة 4)
برشيد نيوز: بقلم الجيلالي طهير
أحيانا أريد أن أشبهَ أمي في تناولِها لِلماضي. فقد كانت المرحومة جِدُ كتومة، وصامتة طوال الوقتِ، ومن طبعِها لم تكن تحبُ الثرثرةَ والصداقات الفارغة. تسألها عن شيء قديمٍ، فتسدُ عليك الطريق، وتجيبك بهذه الكلمات: " أنَا مَا عَاقْلَة حْتًى عْلَى عْشَايَا دْيَال لبَارَحْ".
 في أحدِ الأيامِ الجميلةِ، وكلُ يومِ أَعيشُ فيه ذِكرى جميلةٍ، أعتبرهُ جميلا. التقيتُ بأحدِ الأصدقاء، من رُواد المقاهي، في مدينةٍ غير برشيد، ولم نكن رأينا بعضنا البعض من عشرات السنين، فسألني عن الأهل والأصحاب، ثم جف نبع الكلام، فانتفض وقال: " كِيدِيرْ الاتحاد الاشتراكي فْبَرشيد؟ - أجبته : " مْشاتْ دِيكْ الأيامْ، شْكونْ بقا عاقلْ، سُولني باشْ تْعَشِيتْ لْبارَحْ ". ولكي يملأ فراغات الصمت، قال: " مَحِشوماش على طربوز جْرا على الجيل،. ما دارْ فيها ما يصْلحْ، الجيل اتحادي قبل ما يتحَلْ المقر، وقبل مَنْتزادو حْنا".
 من لا يعرفُ الجيلالي الحداد، وهو الآن شيخ يبلغ من العمر عتيا، فهو بكل بساطة مناضلٌ اتحادي أورتودوكسي، شأنه شأنُ جميع الأورتودوكسيين الدين يتسلقُ ظهورهم المثقفون، والمتعلمون بصفة عامة، في كل زمان ومكان، ثم يرمونهم للكلاب. تم اعتقاله وهو في ريعان شبابه سنة 1963، من طرف رجال الدرك الملكي ببرشيد، وأودع سجن غبيلة بالدار البيضاء، تحت دريعة استعمال العنف في الحملة الانتخابية، التي كان يقودها سعد الله صالح، مرشح حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ضد مرشح حزب جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، في أول استحقاقات تشريعية شهدتها البلاد. حينئذ، تطوع للدفاع عنه اثنين من عتاة المحامين بهيئة الدارالبيضاء، يعملان لصالح حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهما الأستاذ التبر والأستاذ عبد اللطيف السملالي، فأخلي سبيله.
حِرمانُ الجيلالي الحداد من الانتماء للاتحاد الاشتراكي يقتلُ فيه هويتهُ، ويجعله مثل فاقدِ الجنسية، أو المنفِي من وطنِه. والحالة هذه، يختارُ الأوفياءُ تجرُعَ حُلم العودة إلى الوطن، في انتظار تحسن الظروف؛ ويختار آخرون الانسلاخ من الجذور، والتجند تحت راية أخرى لأجل الكسب السريع. إن عدد كبيراً من المثقفين الفرنسيين تنصلوا من الحزب الاشتراكي وتمأسسوا في الشركات الرأسمالية، لأن الأمر بالنسبة إليهم مجرد رياضة ذهنية، يسمونها النقد الذاتي؛ بينما نجد الأورتدوكسيين، من حفدة عمال مناجم الفحم القديمة، الفاقدين أجدادهم في قاع المناجم المنهارة، أو جراء الاصابات بمرض السيليكوز، يظلون أوفياء للحزب الاشتراكي الفرنسي.
كتب الشاب هشام السعيدي: "إنهم اتحاديون وليسوا باشتراكيين". إنها الحقيقة، لأن عبارة "الاشتراكي" السحرية، بقوتها الغامضة، كانت موجهة في الأصل لاستقطاب الشباب الجامعي من جيل السبعينات، المنبهر بالفكر الاشتراكي، بهدف حماية البلاد من التطرف اليساري. كانت تلك، واحدة من عبقرية الراحل عبد الرحيم بوعبيد، رحمه الله، جنبت بها المغرب الطوفان الماركسي، بامتصاصها الغضب الطلابي. وفي مرة ثانية، سيتمكن حزب الاتحاد الاشتراكي من النجاح في عتق البلاد من السكتة القلبية، بقبوله المشاركة في الحكم، مراعاة للمصلحة العليا للوطن، عندما ساهم في تطهير الاقتصاد المغربي المتأزم، عن طريق الأدمغة من قدماء تلاميذه الأستاذ فتح الله ولعلو بكلية الحقوق.
في الحقل الاجتماعي، دائما هناك واقعٌ يعقّد التحليل، ولكن لا مناص من مواجهته. أعرف أنه كلام مستفز، سيلومني عليه الأصدقاء قبل غيرهم. لأنه يتعارض مع الأفكار التي من كثرة تكرارها أمامهم، وبينهم، من خلال النشرات الحزبية، جعلتهم ينتهون بتصديقها والاعتقاد بها. إن قوة التكرار ليست الوحيدة المولدة للأوهام، فالحب والوفاء أيضا يقودان إلى نظرة أحادية للواقع. يكتب الأستاذ عبد الله العروي: " الإعجاب، التعلق، الوفاء، الولاء، هذه عواطف يرصدها كل مراقب للسياسة، وكلها تقود لقوة التوهم". ويكتب فيلفريدو باريتو، وهو صاحب مدرسة في علم الاجتماع السياسي: " نحن نغفر لمن يحذرنا من خداع الآخرين، لكن لن نتحمل هذا الذي يسلبنا كل أوهامنا، والذي يذهب أبعد فيبين لنا أن الكلمات التي نستعملها، ونتداولها تحتوي على الأوهام" . وفي ذلك يقول الأستاذ نبيل معلوف في صفحات كتابه (هويات قاتلة): "لقد علمتني حياة الكتابة أن أرتاب من الكلمات، فأكثرها شفافيةً غالباً ما يكون أكثرها خيانةً. وإحدى هذه الكلمات المضلِّلة هي كلمة "هوية" تحديداً. فنحن جميعاً نعتقد بأننا ندرك دلالتها، ونستمر في الوثوق بها، وإنْ راحت تعني نقيضها بصورة خبيثة".
 أتذكر حضوري لبعض دورات المجلس البلدي الاتحادي، كنت أبتسم كلما تناول الصديق محمد رفيق، المستشار الاتحادي، الكلمة واستهلها ب:" بكل صدق". إني أعرف الرجل حق المعرفة، فهو رَجلٌ صادقٌ حتى النخاع، وحنونٌ على أصدقائه إلى أقصى درجة، لا يقولُ غير الصدق. ولكن عندما يتكلم عن الحزب، أو باسم الحزب، أعرف أن الصدقَ بالنسبة إليه تكرارٌ لما ينقله عن مراجعَ يثق بهم، ويعتبرهم من الصادقين، وأنا أعتبرهم من المخادعين والمنومين المنغاطسيين.
 إن المصطلحات السياسية ليست ثابتةً، بل هي تخضع للتشكيل، والإبراز والإخفاء، عبر النقاش السياسي، وهي ليست عصيّة على التزييف والتسطيح. ها هو الفرق بين الممارسة السياسية عند الأمريكيين والفرنسيين الذين أورثونا هذا التزييف والتسطيح: بعد مرور شهرين على وصول الرئيس فرانسوا ميتيران إلى الحكم، كأول زعيم اشتراكي في التاريخ الفرنسي المعاصر، التقى بنظيره الأمريكي رونالد ريغن، وأجريا معا محادثات سرية على انفراد، بداخل قاعة خاصة. وبعد اللقاء بالصحفيين، فوجئ الرئيس الفرنسي بنظيره الأمريكي يردد للصحفيين نفس الكلام الذي قاله له، كلمة كلمة. احتج الرئيس الفرنسي على نظيره الأمريكي، فأجابه هذا الأخير: " لا تقلق، نحن هكذا نتعامل مع الصحافة في أمريكا، أنا عندما كنت أتحدث معكم سيادة الرئيس، كنت أفكر في نفس الوقت في الكلام الذي سأقوله للصحافة التي تنتظرني خارج القاعة". كان مع الرئيس الفرنسي وقتها السيد جاك أتالي، قال له: " من هنا لعشر سنوات، ستتغير الأعراف السياسية عندنا في فرنسا". ومع مرور السنين والأعوام، غزتنا كلمة " الشفافية" قادمة إلينا، ولأول مرة، من خلف البحر الأبيض المتوسط.
 في القرن التاسع عشر، نهلَ كارلْ ماركسْ، ملهم الاشتراكيين، من شخصيات التنوير الأولى بفرنسا. وباسم الحقيقة ظل يوجهُ الاتهام بالكذب لكل من يتحدث بالمساواة والعدالة. نجح لينين في اشعال فتيل الثورة البولشيفيكية، لكنه أخفق في تطبيق "الاشتراكيةّ- العلمية"، وعمل تراجعات اقتصادية الى الخلف. ولما مات ستالين قبيل استقلال المغرب، ترك بلاده غارقة في بحر من الدماء، وبات واضحا أن ساعة الماركسية قد انتهت ولم يعد لها مستقبل في العالم بأَسره. ومع ذلك، ظل من يتوهم باقتراب موعد الثورة في المغرب، ويتهم من لا يشاطرونه الرأي بالرجعية والتخاذل. 
يقول مناضلون اتحاديون حضروا إحدى مؤتمرات الاتحاد الاشتراكي التي ناقشت التقرير الإيديولوجي للحزب: أمسك المرحوم بوكرين الميكرفون وتحدث لساعات طويلة عن الحكم الرجعي والثورة والجبل، ولما أَنهى كلامهُ قال له المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، بعبارات خالية من الأَوهام: " آشْ دَانَا لْشي جْبَلْ آسي بوكْرينْ ؟ هَا هُمَا عَا حْدَاكْ في لُوطَا، آشْ غَادي تْديرْ معَاهُمْ؟". 
حظي الفقيد عبد الرحيم بوعبيد باحترام الخصوم قبل الأصدقاء، وكان فقدانه خسارة لوطن، وليس لحزب بعينه. لم يكن بحاجة لحضور المؤتمرات الإقليمية، التي أرادها مدرسةً للديموقراطية، وكان سَجلَ حُضوره مرةً واحدةً في المؤتمر الإقليمي لفاس بصفة استثنائية، لأجل تمرير خطاب سياسي، للملك الراحل الحسن الثاني، بخصوص القضية الفلسطينية. أين وصلنا، وأين أصبحنا اليوم؟ أطلّ زعيمٌ من القرن الواحد والعشرين على حزب الاتحاد الاشتراكي ببرشيد، المنقسم على نفسه، وحضر مؤتمره الإقليمي، المنعقد في شهر ماي المنصرم. لم يكن ينقص هذا الحزب غير حضور الرجل مرة ثانية، في نهاية يوليوز المنصرم، ليعمق الجراح، بتدشين حملة انتخابية شديدة البرودة، في غياب الجميلة النائمة تحت الجدار: القوات الشعبية الصائمة إلى أجل غير مسمى.
قد يكون المراد قطع رأس الحزب في السياسة من أعلى، وقد يكون مجرد سوء تقدير محلي. أَمام المصاب الجلل، والجدار الذي يريد أن ينقض فأَقامه، نسوق الآية الكريمة: " وأَما الجدارُ فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزٌ لهما، وكان أَبوهما صالحاً، فأَراد ربك أَن يبلغا أَشدهما ويستخرجا كنزهما رحمةً من ربك، وما فعلته عن أَمري، ذلك ما لم تسطعْ عليه صبرا". (صَدَقَ اللًه العَظيمْ).
 الحزب حضارة عندما يبنى على التضحيات، والحزبيون أبناء تجارب، يتعلمون، ولا يكررون الخطأ المميت. والآن مدينة برشيد تمشي، مرة أخرى، من دون الحزب العريق. الخشية، أن يطول الفراغ فيقود الى تحديد قواعد جديدة للعبة، تلغي الغائب، وتدخله حارة النسيان.

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية