عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

بقلم الجيلالي طهير : العيطة أو المستقبل بخطوات إلى الوراء.

بقلم الجيلالي طهير : العيطة أو المستقبل بخطوات إلى الوراء.


العيطة أو المستقبل بخطوات إلى الوراء.
بقلم: الجيلالي طهير
في " زمن الشاوية" لبوشعيب خليفي، استوقفتني هذه الإضاءات: " قال الهداوي، بائع السباسا، ومطرب القصبة وشاعرها: عمر معمر ما مات، خلا تلت بنات، وحدا تزها وحدا تبات، ووحدا تمشي فين بغات". وقال علي الشاوي: " كنت سارحا للشياه، وها أنا اليوم أرعى الشياطين والملائكة".
كل كتابة قابلة للتأويل، وأنا أرى فيه تعبير فريد عن فكرة العود الأبدي للأشياء لفريدريك نيتشة، حيث كل شيء يتغير ويبقى على ما هو عليه. رأيت في كتاب " الرحامنة، بين المخزن والزاوية"، للأستاذ عبد الرحيم العطري، صورة القائد العيادي، وهو بالنسبة إلي تاريخ مليء بالأصفاد والأغلال والسياط ، جالسا مع ضيوفه النصارى، يلتهمون الخرفان المشوية. وعلى مقربة من الصورة، أبيات من كتاب "العيطة ، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب" لمؤلفه حسن نجمي، منها:
" دوزها قائد من القياد ^ دوزها القائد العيادي
^ ورا الخادم تمشي وتجي ^ ورا العبد يعيط سيدي
ولا حسدتوه ديرو كيفو".
إن قصيدة واحدة تتغنى بعشق الحرية، خير من الأولوف المقنطرة من العيوط التي تستمد ما يلصق بها من قيمة من مجتمع ميت، كان يعتبر استعباد الخلق مفخرة ومرجلة.

علاقة العيطة بالإبل
العيطة ثقافة مجتمع مندثر ، ورثها مجتمع حي ، يحافظ عليها ويحنطها، كي تسليه ويتسلى بها (1). بل هي وليدة مجتمع بدائي ، بيدائي، بدوي، لعبت فيه الناقة دورا رئيسيا في النشأة. أحيانا تغرق مسامعنا مداخلات بعض المطربين الشعبيين والمثقفين المبليين بالعيطة، على قنوات التلفزة، فتبدو كنوع من التمركز حول الذات، تضع أصحابها خارج الزمان والمكان، تعطي أجوبة كثيرة من غير أسئلة، حشو وإطناب، واسشهادات وشهادت عن أشياء لا موجودة إلا في الخيال.
الجهل يعني الفراغ والبعد عن التحضر. وأقل المناطق تحضرا هي وسط الجزيرة العربية التي يحكم الجذب محيطها. سميت البادية، لظهورها وبروزها، لأن الناس كانوا إذا خرجوا من الحضر الى المراعي في الصحاري قيل عنهم بدو. وأما " العيطة" فتعني صوت الصياح عند البكاء، إذ نقول عيط الطفل أي صاح من صوته بالصراخ؛ وعيط عليه، أي صرخ عليه أو بكى على موته. و"العيط" تعني أيضا خيار الإبل، وإذا لم تحمل الناقة أول السنة فهي عائط.
تقول الأسطورة، كان لمضر حفيد حفيد عدنان، أحد الأجداد العرب، صوت عذب وجميل. سقط ذات مرة من على ظهر الناقة، وهو في رحلة مع القافلة، وأصيب بكسر في يده. ولما عاود الركوب على راحلته، ظل يعيط، أي يصرخ ويبكي: " وايداه يا أمي، وياداه يا أمي" . استحلت النوق هدا اللحن الجميل، وأسرعت الخطى، حتى وصلت المكان المنشود قبل المعتاد. انتبه الجمالة لقطع المسافة الكبيرة في زمن قصير، فصاروا منذ ذلك الحين " يعيطون" في ترحالهم لحث الإبل على الإسراع في المشي (2). وإلى الآن لاتزال كلمات مثل "يادا يادا أمي"، " ياودي يايدي"، "هضاي هداي هدضي" تستعمل لضبط الإيقاع في العيطة. هذا العيط التأسيسي كان يسمى الهود، والجَمال الذي يعيط في القافلة كان يسمى الهادي، ثم تفرع عنه النسب والنوح، ولم يعرف العرب غيرهما، كما جاء في كتاب الأغاني للأصفهاني، قبل الإقبال على الغناء بمختلف أنواعه.
ها قد ذهب عصر الناقة وبقيت" البلية" حاضرة في خطابنا اليومي، فنقول: " باقا هذه البلية لاصقة ، ما بغا يعفو الله ". إن " البلية" عند العرب هي الناقة التي تربط على قبر صاحبها الميت، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت. وأما العيطة فهي " بلية" لم تمت، مادام الجهل حي يرزق، أوجد لها ماءها ومرعاها، وأعطاها منصة لتملأ الهواء.

بنو هلال أصحاب الحال.
عندما أراد المنتصر بالله، الخليفة الفاطمي بمصر، معاقبة والي برقة بتونس الذي أعطى ولاءه للدولة العباسية، سلط عليه جحافل عرب بني هلال الذين كانوا مطوقين وسط صحراء سيناء. فخرجوا إلى افريقيا الشمالية بدوابهم وعاداتهم وتقاليدهم وغنائهم العيطة. ولما اعتلى أبو يعقوب المنصور عرش الدولة الموحدية، وانحاز شيوخ بني هلال لمناصرة بقايا الدولة المرابطية بالجزائر، ذهب إليهم السلطان الموحدي بجيشه، وعاد بهم إلى المغرب الأقصى، ومن ضمنهم عرب بني جابر، بطن من هلال، ووطنهم منطقة تادلا. ومع مرور الزمن، نزل بنو جابر الى السهول الأطلسية، تحت دافع التزاحم القبلي، تاركين الهضاب لأهل الجبل الباحثين عن الماء والكلأ، حيث انصهروا في بوثقة واحدة مع بقايا خليط من القبائل الأمازيغية المستعربة، يطلق على موطنهم لحباشة. ويعني " التحابش" في لغة العرب التجامع من مختلف الأطياف.
لماذا لم يستطع شيوخ بني هلال تكوين إمارت خاصة بهم، مثل أمراء الإقطاع بأوروبا؟
إنهم لم يعطوا ولاءهم للأرض، وبقوا محافظين على عادات الترحال، يلعبون دور المرتزقة، مناصرين أميرا ضد أمير. ومن تبعات ذلك، بقيت موسيقاهم جامدة، في الوقت الـذي لم ينعزل فيه الموسيقيون الأروبيون عن الفلاسفة والشعراء وباعثي النخوة يوم أن تعاقبت عليهم نهضة الإصلاح والحرية. إن " الموسيقى الغربية لم تكن من قدم الزمان على الطراز الذي نسمعه من بيتهوفن وأمثاله. بل اتخذت منهجها الحديث حين نشأت في ظل القداسة الدينية، ثم غيرت أسرار الروح والوجود، ثم استولت عليها المذاهب الكونية حين استولت على تراث الدين كله" (3). زيادة عليه، العلاقة لم تكن على ما يرام بين الغناء والفقه الإسلامي، وأبدا لا تدخل العيطة البيوت المحافظة بالمغرب. فالقرآن كلام الرحمن، والغناء كلام الشيطان ورقية الزنا، ويالها من فرصة لا تعوض يجدها الشاب العازب في ليالي السهر بعيدا عن الخيمة، للتنفيس عن عواطف المراهقة المكبوتة.

رحلة العيطة إلى المدينة.
جاءت نهاية حياة الترحال على يد الاحتلال الفرنسي للمغرب في مطلع القرن العشرين، بعد تحويل الأراضي الرعوية المشاعة إّلى ملكيات زراعية خاصة، أسست للحياة المستقرة فوق المجال بصفة نهائية. لكن الترحال القديم أخذ صورة جديدة وهي الهجرة القروية نحو مدينة الدار البيضاء. كانت غالبية النازحين البدو من الشباب العازبين، قصدوا المدينة للبحث عن لقمة العيش، هاربين من القحط والجفاف، بجوعهم وفحولتهم وكبتهم، يحملون مع معهم أوتارهم، بناديرهم، ومزاميرهم المصنوعة من القصب. وكان من الطبيعي أن تنتشر ظاهرة الحلاقي في الفضاءات العارية، على أيدي هؤلاء الغرباء عن أوطانهم الـذين يغلب على وعيهم الحنين. وبموازاة مع ذلك، ترعرعت الأصوات النسائية في بيوت الخفاء المخصصة للقطيع المعطر، وهن ضحايا اغتيال البراءة وهتك العرض في مجتمع ذكوري ظالم، كانت تنشدن على أقراع الكؤوس ما تحفظنه عن ظهر قلب من الأغاني البدوية.
تشير الدراسة الإثنوغرافية التي أجراءاها جون مارتان ومن معه حول أصول بائعات الهوى المتواجدات بمدينة الدار البيضاء في تلك الحقبة على ما يلي: و 17,53 في المائة جئن من الشاوية الجنوبية، و 25 في المائة من الشاوية الشمالية، من ضمنهن 17,66 في المائة من أحواز الدار البيضاء و3,73 من برشيد أولاد حريز (4). إحداهن من أحواز الدار البيضاء تألقت في الرقص والغناء بمدينة فاس، اسمها حنينة، جاءت وعائلتها للدار البيضاء، وغدر بها الزمان شر غدر، يكتب أوجين أبين في المغرب وسط الاضطراب Le Maroc dans la tourmente.
مع تطور المجتمع، دخل مصطلح "الترحال" القاموس السياسي، للذلالة على الانتقال من حزب لآخر ، دون الاستقرار على موقف أو مذهب. " من خان نبيا، كيف لا يخون زعيم حزب سياسي؟ "، كتب الأستاذ عبد الله العروي في خواطر الصباح.
العودة إلى التقليدانية:
عندما تؤدي سرعة التحول المجتمعي إلى إضعاف وتدمير الأنماط التي قامت من أجلها الأنماط القديمة؛ أو ظهور أنماط مجتمعية جديدة لا تنطبق عليها التقاليد القديمة، يحدث غرس تقاليد جديدة بشكل أكثر كثافة وتكرار (5) . هذا ما حصل بعد الاحتلال الفرنسي للشاوية، حيث ظهرت تقاليد جديدة وتم استخدام الأنماط القديمة، في الظروف الجديدة ، لخدمة أغراض استعمارية حديثة. فمن أجل مواجهة الإسلام السني المنتشر في أوساط العلماء والفقهاء بالحواضر، سهر الجنيرال ليوطي على تشجيع الإسلام الشعبي أو السحري بالبوادي، وهو خليط من الدين والخرافة ذات النفع السياسي، حيث يمتزج " الكذب التعبدي" le mensonge pieux بحرية مضللة وعابرة يمنحها الرقص الجنوني على إيقاع الدفوف والمزامير.
سيطر توجهان أساسيان على السياسة الاستعمارية في هذا الميدان، وهما تشجيع الحضرة بالزويا وتشجيع العيطة من خارجها، يلتقيان في نهاية المطاف في نفس النقطة، وهي الحال العمودي المقدس، أو الارتقاء الروحي من طبيعة سفلى إلى طبيعة عليا، والحال الأفقي الدنيوي المدنس، وهو ملامسة النشوة عن طريق الرقص والجدبة l’intase et l’extase.
فقد نظرت السلطة الاستعمارية إلى الإنسان البدوي كغرائز وليس كإنسان واع، ولم تبسط سلطتها السياسية بالقوة فحسب، بل لجأت إلى الوسائل الإيديواوجية من أجل إخضاع الكل الاجتماعي، وهي الوظيفة التي أنيطت بالعيطة كي تمنح الأفراد، سجناء مجموعاتهم، حرية نفسانية ميتافيزيقية كبديل عن الحرية السياسية الاجتماعية.
في سنة 1915، حضر موسم أولاد سيدي عمرو بلحسن بأولاد حريز ما لايقل عن 5000 زائر من مختلف الدواوير، بينما المكان لا يزال ثكنة عسكرية للجيش الفرنسي، بحضور قائد أولاد حريز وعدة شخصيات أجنبية من بينهم وزيران في الحكومة الفرنسية. أعطت العيطة الولي الصالح سيدي عمرو بلحسن، دفين زاوية أولاد فكرون بدشرة السراغنة، قوة خارقة تجاوزت التطبيب إلى البعث وعلم الغيب، مع منحه شارة النسب الشريف، فقيل عنه: " جدك شريف عزيز، خبارو في باريز" (وليس مكة) ، " جدك مول اللوبان، ومخفاتو خافيا"، " بغيت جدي يلقاني، وتشوفو كاع الناس"، " سيدي عمرو طبيب، يداوي ولادو في الغيب، جيتك داويني". هذه البرمجة الثقافية ليست غير الوعي الزائف الذي يبقى الإنسانُ مأسورا داخله، وغير واع بعيوبه وخرافاته، يحيطها بهالة من القدسية، كأنها ضرب من عبادة الأوثان.
في عصر النهضة، كتب ابن الوزان، المدعو ليون الإفريقي قي مؤلفه " وصف إفريقيا": " يوجد بفاس العديد من هؤلاء السوقة الذين لا خير فيهم، ينشدون في الساحات قصائد وأغنيات وترهات أخرى لاعبين بالدف وأرباب القيتار، يبيعون أوراقا صغيرة كتب عليها كلمات وعبارات ناجعة بزعمهم للشفاء من كل داء... الشاوية قوم سذج، يصدقون أي شيء".
تحامل الوطنيون في بداية الاستقلال على العيطة وزيارة الأولياء، وعلى رأسهم علال الفاسي في كتابه النقد الذاتي، قائلين أنها أساليب تجهيلية، تهدف إلى تقوية العادات الجاهلية. فمنعت الحلقة بساحة جامع الفنا ، لكن سرعان ما تم التراجع عن قرار المنع لأسباب اقتصادية، ولما تلعبه السياحة من دور في الرواج الاقتصادي بمدينة مراكش. (6)
في منتصف الستينيات، ومن أجل ضرب أحزاب المعارضة ، ب" الفلاح المغربي المدافع عن العرش" ، وسط أجواء حالة الاسثتناء، تمت العودة إلى إحياء الروح في العيطة ومواسم الأولياء والفروسية التقليدية، مع صياغة طقوس جديدة، تمثلت في تخصيص منصات للشيخات وسط الساحات العمومية، وإقامة المآدب، وحضور شخصيات رسمية للخيمة المخزنية، وإلغاء اللباس الأوروبي في المناسبات الرسمية والعودة إلى اللباس التقليدي للقرن التاسع عشر، وزرع مصطلح " نعم أس" كمعيار غير رسمي لتسلق السلاليم بالإدارة الترابية، وتقبيل يد السلطة الإقليمية والمحلية من طرف الأعيان المحليين لغرس شعور الطاعة في الطبقات الدنيا. (7)


العيطة ليست شعرا.

التجرد والنأي بالذات في ميدان البحث العلمي شرط أساسي لتوخي الدقة والموضوعية. يختلط عند حسن نجمي، مؤسس الجبهة الوطنية للدفاع عن العيطة، ما هو موضوعي بما هو ذاتي، أزمة المثقف وأزمة المجتمع، حال جميع الدين يكتبون تاريخ عائلاتهم وعشيرتهم، كما يقول الأستاذ العروي في كتابه "أزمة المثقفين العرب". فهو يجعل من العيطة هوية شعب، ويسميها شعرا شفويا. الهوية هنا تعبير لا معنى واضح لها، لأنها كلمة في الهواء، مقتبسة وموضوعة في غير مكانها المناسب. فإذا كانت الهوية هي ما يميز المجموعة عن غيرها، فيجب أن نحدد أولا تاريخ وتراب المجموعة التي نريد، ونحدد المجموعات التي تقابلها. ثم إن الهوية شيء ديناميكي متحرك، تتغير مع الزمن وتُغيِّر التصرفات؛ بينما العيطة حرفة وسلعة تجارية، تولد الاستهلاك، وتخلق لدى المستهلك طريقة الاستهلاك وغريزة الاستهلاك. وبعبارة أخرى، القطعة الفنية هي التي تخلق جمهورها، أي تخلق الشخص للشيء وليس العكس، كما يشرح ماركس في نقد الاقتصاد السياسي. إنها لم تعد تمارس مند زمن قديم بصورة تلقائية في البوادي، بسبب التغيير الحاصل في نمط الإنتاج. فيمكن أن نتصور راع يعزف لحنا جميلا، أو يرتجل كلمات، وهو عائد من المرعى خلف شياهه، ولا يمكن ذلك بالنسبة لإطار بنكي يشتغل بالبورصة. " هل أبالغ إذا قلت أني أمتلك مع أي عابر تختاره بالمصادفة في شوارع براغ أن سان فرانسيسكو أشياء مشتركة أكثر بكثير مما يوجد بيني وبين جدي الأكبر. ليس فقط المظهر والملبس والمسلك، ليس فقط طريقة العيش والعمل والمسكن والأدوات التي تحيط بنا، وإنما المفاهيم الأخلاقية أبضا وعادات التفكير" ( أمين معلوف؛ الهوية القاتلة).
إن التاريخ لا يحتاج إلى مواد مبردة نخرجها من آلة التبريد لنعمل عليها إسقاطات الحاضر. فهو يبدأ من مرحلة الكتابة بتفاعل العناصر الأربع: الإنسان، الزمان، المكان، الحدث. قبل الاحتلال الفرنسي، لم يكن هناك انتماء إلى الأرض، وغابت الكتابة. والآن لما وقف الأحفاد من الزمان موقف العزلة، ولم يعرفوا ما فعله الأجداد، أرادوا الاستنجاد بالعيطة كتراث شفوي يربط الأجيال في سلك واحد، لكنهم لن يعثروا إلا على عدد قليل من المقابر المنسية. لا يوجد الشعر في ألفاظ العيطة، بل في من يصغي إليها ويطرب لها، كونها ثقاقة خصوصية يلعب فيها الانسان دور رجل الطبيعة السادج المتكل على الإحساس والحدس" (العروي). لا شاعرية، ولا رومانسىة، ولا مقارنة بين " عويشة راح الليل"، " هو أش جاي يدير في نصاصات الليل "، " أنت جاك نعاس أنا ماجاني" وبين الصورة الجمالية الموجودة في :
" وليْلٍ كَمَوْجِ البحْرِ أَرْخَى سُـدُوْلَهُ ^ عَلَيَّ بِأَنْوَاعِ الهُمُوْمِ ليبتلي".
يوجد فرق شاسع بين مستوى نجوم العيطة بالمغرب والمغني السينغالي، إسماعيل سيك، الذي يقرأ باستمرار كتاب " النبي" لجبران خليل جبران، ويحس كما أنه هو من ألفه. إن كلمات مثل "زيد الزيادة لبغيتي القيادة" ، لا يطرب لها غير الطامعون في منصب قيادي بالمقابل؛ وكلمات مثل "جيبو الزيت في التفاشة، لاواه يا أمو ، لواه ألوليد" ، لا يحس بها إلا من يوجد في الموقف الذي لا يحسد عليه. وتبدو بعض المقاطع موغلة في القدم، وهي ليست كذلك. فمن السذاجة الاعتقاد بأن كلمات مثل : " الكاميو الأحمر معمر حنة وثمر"، و" الرياحي خلخل عقلي"، و " جدكم يا أولاد حريز، خبارو في باريس"، " قبة سيدي طلعت" ، " لبهالة بيضاوة" ، " ميلودة بنت ادريس"، " ربيعة فكعانة، عل الصباط ولمكانة"، " ريفالصو ريفالصو، اسقيني بالريكارد"، " بضاض يرشي" تعود لما قبل الاحتلال الفرنسي. إن الوهم يستمد قوته من حيث تحوله إلى واقع في أعين المجتمع. وعندما يقبل المجتمع بالوهم كحقيقة ، فمن العبث رفع راية المنطق في وجهه. إن العقل الخرافي الذي يعتقد بأن خربوشة قاومت وانتصرت على القائد عيسى بن عمار لا يختلف عن العقل الذي يؤسطر لجان دارك. إن العقل الجماعي لا يرى الواقع ، وإنما يعيش دوما في الصورة الذهنية الماضوية التي لا تعني في الواقع أي شيء.
العيطة والأمية.
لا نستغرب لوصولنا درجة الصفر في الإبداع ، ففي عدد الأحد 10 يوليوز 2017، جاء في جريدة " أخبار اليوم"، نقلا عن الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية، أن 20 في المائة من الموظفين بالإدارات العمومية والجماعات المحلية أميون. يحصل ذلك في سياق انفصال وتجاوز القطاع المالي الذي يتوخى الربح السريع عن القطاع الاقتصادي الذي يراعي مردودية الاستثمار على المدى البعيد، على كافة المستويات الاجتماعي والثفافي والبيئي . وقد تولد عن هذا الوضع ظهور شريحة اجتماعية جديدة تتكون من فقراء الأمس، ومن الطبقات المتوسطة، غالبيتهم من الأميين، أصبحوا بين عشية وضحاها من أثرياء الحاضر ، بفضل الاستفادة من القروض البنكية في المجال العقاري، وهي موجة عالمية يصطلح عليها في علم الاقتصاد ب " ديكتاتورية السرعة" (8). وكان من الطبيعي أن يصل أصحاب المال الجديد إلى تدبير الشأن المحلي، ويفرضون طبائعهم وأدواقهم على العموم. يوجد في صفوفهم فريق متأثر بالفكر الوهابي انفرد بمحاربة العيطة. هؤلاء يربطون ظهور المعازف بعلامات الساعة، ولا يطبقون على أنفسهم نفس الحديث المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم، والقائل بأن من علامات القيامة الربا، وأن يتطاول الحفاة العراة، رعاة الشاة في البنيان، أي أن يصبح المال في يد من لا علم لهم، وأن تزخرف المساجد وتحلى المصاحف، أي يكون الإيمان ظاهريا فقط، بلا قلوب تخشع ولا أفئدة تخضع (9).
يمكن الإشارة أن الملايير تصرف على المهرجانات الإقليمية للعيطة خلال بضعة أيام ببعض المدن المغربية. ففي ظل المفهوم الجديد للسلطة، وتخلي الأبناك عن دورها الكلاسيكي المتعلق بتمويل الاستثمار والاتجاه نحو تمويل الربح السريع، تمكن جزء من المجتمع المدنيّ من التخلص من ثقل رقابة السلطة العمومية فوقع تحت رقابة من نوع مختلف، بحيث عوّضت «أبويّة» الممولين «هيمنة» السلطة الإقليمية. وأنتج هذا الوضع ظاهرة «الناشطين المحترفين»، وهم فئة متفرّغة للعمل المدنيّ تتلقى كمقابل رواتب تقتطع من جملة ما يدفعه الرعاة. ومشكلة هؤلاء هي دخولهم في علاقة استرزاق، حيث تحوّل العمل من أجل الصالح العام، الذي هو في الأصل فضيلة مطلوبة لذاتها، إلى مصدر رزق. وتحوّل الشغف بخدمة المجتمع المدني، إلى سعي لصرف التمويلات بهدف تبرير الوجود. مهرجان "جوهرة" بالجديدة كنمودج.
إن عمالات الأقاليم، وهي جماعات محلية منوط بها تأطير المواطنين دستوريا، كيانات إدارية تؤثر وتتأثر بمحيطها الاجتماعي. والحالة هذه فإن بعض المسؤولين الإقليميين لا يدركون ذلك، فيتأثرون سلبا بنواقص المجالس المنتخبة أكثر مما يؤثرون إيجابيا على سير أعمالها. مشكلة هؤلاء، وهؤلاء، أنهم يقيسون التاريخ بعدد السنوات التي يقضونها في السلطة، وليس بالمنجزات والسمعة الطيبة التي يتركونها عند مغادرة المنصب. الأمر واضح وصريح في خطاب العرش الأخير، حول هؤلاء الدين ينتقمون لجوعهم القديم على حساب المواطنين .
قبل 17 سنة، أي في خطاب العرش لسنة 2000 ، قال جلالة الملك محمد السادس: " إن حرصنا على هذا التوجه المجتمعي نابع من إيماننا بأن الكرامة تفتقد مع الجهل أكثر مما تفتقد مع الفقر، ومن ثمة كان توجهنا للاستثمار في المواد البشرية باعتبارها رأس المال البشري رافعة التقدم وخلق الثروات ". فهل يعقل أن ترصد أموال التنمية البشرية المخصصة مبدئيا للفراشة والمعطلين، وكهربة الدواوير الهامشية، من طرف العامل السابق في تشييد ماخور للأغنياء الجدد ببرشيد، بمحاداة معهد موسيقي عصري لا يحمل من المعهد إلا الإسم؟ (10).

العيطة وموت الفلسفة.

عندما يكون زعيمك قاطرة، فعليك أن تكون عربة. سئل عبد الله القادري، وهو أحد أبرز الوجوه السياسية بالشاوية في نهاية القرن العشرين، من طرف صحافة الأحداث المغربية، عن أقرب الفنون إلى قلبه، فأجاب بكل تلقائية: " العيطة". وسئل عن أحب الأصوات لديه، فقال: " فاطنة بنت الحسين". ولما سئل عن أجمل الأماكن بالنسبة إليه، وكان وقتها يتجول في قلب باريس، قال: " باريس". وربما تراءات له برشيد ، فاستذرك تحت وطأة الحنين، وأضاف : " ومع ذلك تبقى برشيد الأجمل".
وذات مرة، حضر الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، العائد من الديار الفرنسية، مسرحية " بوغابة" للمبدع محمد قاوتي، و ثريا جبران كبطلة رئيسة على الخشبة. وهي استباب مسرحي، مؤثت بوصلات من العيطة، لنص السيد بوتيلا وتابعه ماتي لبريخت. يجسد فيه "بوطربوش" شخصية بوتيلا ، وهو صاحب ضيعة من كبراء أولاد حريز ، إقطاعي سكير ، عاشق للعيطة، يكون طيبا عندما يسكر وظالما عندما يعود إلى وعيه. تدور أحداث المسرحية في حانة خارج مدينة برشيد، وهي أوبيرج الشاوية، تحمل نكهة اشتراكية، فيها تحليل لطبيعة النفس البشرية لمن يمارس السلطة ولمن يخضع لها.
المقارنة هنا، بين زعيم أكبر حزب مديني وزعيم أصغر حزب عروبي، تأتي على ضوء مقولة الجنيرال ديغول: " خلف ألكسندر يتراءى سقراط"، Derrière Alexandre se profile Socrate ، ويقصد بأن الساسة العظماء يقرؤون الفلسفة. وعلى ضوء مقولة أنور عبد المالك في مؤلفه " الفكر السياسي العربي المعاصر" الدي كان يُدَرس في شعبة العلوم السياسية، باللغة الفرنسية، في منتصف السبعينات: " يمكن أن يكون الفيلسوف في العالم العربي في الوقت الراهن ملكا؛ في غالب الأحيان ملكا مصلوبا ، وليس حاكما أو رجل إدارة" .
Dans le monde arabe d’aujourd’hui, le philosophe est roi, pourrait-on dire, un roi crucifié ; mais non pas gouvernant, ni administrateur.

وإذن، هو نفسه سقراط الرمز الذي تربع على عرش الفلسفة ومات مصلوبا. فما الذي استعرضته مخيلة الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي عندما أطلقت ثريا جبران زغرودتها بداخل قاعة العرض، هاتفة: " العيطة عليك السي عبدالرحمان"؟ هل الآفاق أم الأبواق؟ سقراط و"اعرف نفسك بنفسك"، أم نشوة العيطة، دوق السي عبد الله والمعارضة الاتحادية التي أدلجت للعيطة في المهرجانات الثقافية؟


إقرأ المقال السابق لنفس الكاتب: السياسة والإدارة ببرشيد ، وخطاب العرش الملكي.

1. عبد الله العروي؛ الإيديولوجية العربية المعاصرة.
2. Alexandre Christianowitsch ; Esquisse historique de la musique arabe aux temps anciens
Georges Kastener ; considération sur l’origine et le caractère du cri
3. عباس محمود العقاد؛ أنا.
4. Jean Martin et Mavreez ; Bousbir et la prostitution dans le Maroc colonial
5. Jacques Attali ; Pour une économie positive.
6. أيريك هبساوم؛ اختراع التقاليد، دراسة في نشأة التقاليد ودوافعها وتطورها.
7. عبد الله العروي؛ الإيديولوجية العربية المعاصرة.
8. عبد الله العروي؛ المغرب والحسن الثاني.
9. محمد متولي الشعراوي؛ الدار الآخرة.
10. خطاب العرش؛ الاتحاد الاشتراكي عدد 6199 سنة 2000












.









Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية