عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

بقلم الجيلالي طهير : برشيد عاصمة الحبوب

بقلم الجيلالي طهير : برشيد عاصمة الحبوب

برشيد عاصمة الحبوب
برشيد نيوز : بقلم الجيلالي طهير
وُلدت برشيد العتيقة كأنها باقة من الزهور البرية العطرة، فوق حقول السنابل الخضراء الزاهية. سيظل عُشاقها يرددون أنها كانت الأجمل، وهي اليوم بالنسبة إليهم جزءٌ من التاريخ، كل ما فيها ينطق بالفقر. أشياءٌ كثيرة انسحبت منها، وأخرى حلت محلها. هناك مجهوداتٌ تبدل حاليا من أجل إعادة تأهيلها، وتنويرها. لكن قيساريتها بالذات، تبقى مقبرةً مظلمةً، مضاءة بآلاف الفوانيس من الذكريات. تقتلنا حبا، ونحن نرى بها طيورا، لا رأس لها ولا أجنحة: صمٌ، عميٌ، بكمٌ، إلا من كلماتهم النابية، يبيعون ويشترون، يتناطحون ويروثون، فوق الطريق العام.
قبل سنوات، لم نكن نعلم، نحن المرضى بتراب القيسارية، أن نهايتها ستكون بهذا الحجم من الفجاعة: ورقةٌ يابسةٌ في مهب الريح. هذه القيسارية الرائعة مثل الناس الرائعين، ومثل الحزب المناضل الدي ضحى لأجله المثاليون الحالمون. عندما خدشت قساوة السنوات الطويلة جسدها الطفولي، ماتت أو نامت. النائمون يموتون مؤقتا، والموتى ينامون إلى الأبد. لما استفقنا ذات صباح، وجدناها طاعنة في السن وفي الهم، جنازة بين أيدي من أرادوا إيصالها إلى أي قبر بسرعة وهي تحتضر. رفعت الجلسة، بل رفع ياسيف اسمعلي يده عن القلم، غير راض عما يكتب، وهو يسطر آخر جملة قاتلة في محضر الدورة. ما حصل مع قيسارية برشيد لا يقل شناعة عن الموت قتلاً.
هكذا تجري الأمور في هذه المدينة العزيزة: لأجل المال يجرحون عواطفنا ويرفسون كل صورة جميلة بداخلنا. يقال بأن العواطف شفافة مثل الزجاج، عندما تتشقق تتكسر. القيسارية الرائعة، مثل حسناء الحي الجميلة التي تركت عاشقها وعرست مع الآخر. ماذا ربحنا منها، وماذا جنينا من حبها غير المرارة؟ ربما من الأفضل لنا نسيان الأشياء التي نراها ولا ترانا، ونقبل تخليها عنا. القيسارية والحزب الكبير في النهاية شيء واحد، لم يعد يشبهنا أو يعجبنا. يتساءل الجميع: أناحت تلكم الحمامة الزرقاء، أم بكت، على فرع غضن وردها الاتحادي؟ إن القلوب التي لا تقبل التواطؤ، حينما تتعب، تنسحب، أو تجلس لتحتسي كأس شاي في مقهى بلفقية وتصمت. الأرض التي أعطتنا الحياة، علمتنا الحياء.
في الجانب الآخر، خرجت من الأرض برشيد أخرى، عاهرة تتمدد بالليل والنهار، فوق سرير الزرع المنتوف، كأخطبوط عجوز، لا تربطنا بها أية علاقة روحية. إن في كل المدن عشاق حالمون، يقولون الكلمة الطيبة، إلا هنا، في هذه المدينة الجديدة الفاقدة للشهامة. يقال أنها لم تشيد كلها بالحلال، الغبرة البيضاء فوق التربة السوداء، ولا يوجد فيها شيء يوحي بأنها المدينة، سوى كونها مبنية بحجارة واسمنت مسلح، معلقين في الهواء، بلا حدائق ولا مرافق ترفيهية وثقافية تستحق الذكر. الكارثة، أن بعض سكانها، من ضحايا ناهبي الخبز، يؤدون ثمن الشقة بالتقسيط للبنك، ويرمون الخبز في القمامة. غدا، سترتفع أثمان الحبوب، وسيندم كل الدين لا يقرون للزرع بحق الوجود.
قبل أربعين سنة، قال الحسناوي رحمه الله، لأولاد حريز، في الحلقة بسوق الاثنين: " بقاو عا تبيعو في الأرض، وتبنيو، حتى تعودو تاكلو الصدف".
لو لم تكن الحبوب لما كان هناك مدينة اسمها برشيد. إنها النواة الأولى للاستقرار بأرض الشاوية. وأجدادنا كانوا السباقين للتخلي عن الرعي والترحال الموسمي فوق الرقعة المحددة للقبيلة. هم أول من اختار الثبات في الأرض على امتداد الفصول الأربعة، من أجل شق الأرض، وزرعها، وتطهيرها من النباتات الطفيلية، إلى وقت الحصاد والدرس وخزن المحصول تحت الأرض.
وهي تدور، جاء الاحتلال الفرنسي، وأدخلت الشركات الكبرى الجرار وآلات الحصاد الأمريكية لأول مرة، فأصبحت الأرض خزان الشاوية للحبوب. ثم ظهرت التعاونية الفلاحية لجمع الحبوب، والشركة الجزائرية للطحين – دار كليزو-، والشركة الوهرانية الفرنسية للحبوب، ومطاحن برشيد.
لا داعي للبحث عن تاريخ ظهور اليهود بالمدينة العتيقة. فهم ناسها وأول من زرع فيها بدرة النشاط التجاري، والسباقين لبناء أول المتاجر بها، قبل أن تظهر القيسارية إلى الوجود. وكذلك عمرها آل واكنين، وآل الحرار، وآل بنصراف، وآل بنعبو بالأهرية المتخصصة في جمع وتصدير الحبوب.
قال لنا الحاج ادريس اسمعلي رحمه الله: عندما عاد محمد اليزيدي، عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، من منفاه بالسراغنة في نهاية الأربعينات. عرج على مستشفى الأمراض العقلية لزيارة أحد النزلاء من أسرته. فسنحت له الفرصة لربط الاتصال مع عبد الله الصالحي، مسير الشركة الفرنسية الوهرانية لبيع الحبوب، عن طريق زوجته اليهودية الممرضة بالمستشفى. هذا الأخير، مكنه من التعرف على بوشعيب بن إسماعيل الحبشي السلهومي، تاجر الحبوب، فتأسست النواة الأولى لحزب الاستقلال ببرشيد، على يد تجار الحبوب الدين مثلوا همزة الوصل بين الوطنيين والأعيان بالبوادي.
اليهود المغاربة يعرفون مصلحتهم جيدا. ففي أول انتخابات جماعية بالمغرب سنة 1960، صوت يهود الدار البيضاء، وهي المدينة الصناعية، كتلة واحدة لصالح مرشحي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وفي برشيد، المركز الفلاحي الصغير، كان التصويت من طرفهم لمرشح حزب الاستقلال بالقيسارية، وهي قبلة الفلاحين من الأطراف المجاورة.
من المفارقات المضحكة أن سكان بادية أولاد حريز ظلوا يصوتون لفائدة حزب الاستقلال في الانتخابات التشريعية، بينما هو في المعارضة، وهم يعتقدون أنه لا يزال بالحكومة (الفلاح المغربي المدافع عن العرش. ريمي لوفو). وبعد أكثر من نصف قرن، كما قال لي الصديق حسن بلبدالي، كاتب الفرع المحلي للاتحاد الاشتراكي، لا يزال البعض ببادية برشيد يعتقدون بأن السيد محمد طربوز يمثل الحزب بالبرلمان.
لا نستغرب لو وجدنا بأن اثنين من أكبر نشطاء حزب الاستقلال، قبل يحولا وجهتهما نحو أحزاب أخرى، وهما سيدي عبد القادر المدني والحاج أحمد فهمي، كانا صبيين يشتغلان عند عبد الله الصالحي. ولا نستغرب أيضا لو وجدنا بأن الغالبية الكبرى لتجار الحبوب ببرشيد من أصول حبشية، أو لهم علاقة مصاهرة بعائلات حبشية. وهم كالتالي:
بوعزة بن أحمد بن الستي، محمد بن المصطفى الستي، الصغير بن الستي، أحمد بن البكري، عبد القادر بن أحمد بلمراكشي، الحاج بن أحمد بلمراكشي ، نصلوبي الحاج بوشعيب بلعربي، نصلوبي الحاج عبد القادر بلعربي، نصلوبي الحاج صالح بلعربي، ادريس بن الشايب ( علالي زوجته حبشية حزامية) ، شفيف الحاج محمد بلقرقافي، شفيف محمد بلمعطي، شفيف الحاج عبد القادر بلقرقافي، الحطاب أبو الفتح، عمرو أبو الفتح، نجيب بوعزة بلعياشي، علي أبو العز الدكالي ( ترعرع بالرحيحات)، ، محمد بن أحمد بن ربيعة ، عبد القادر بن ربيعة، محمد بن أحمد بلعياشي لعوج، بوشعيب بن محمد بن عبد السلام، فهمي عبد القادر بلمعطي، لحسن أيدوبلا ( زوجته حبشية قنونية) ، الحاج الميلودي قنون.
ـ الصورة أعلاه : الصغير بن الستي، المرحوم ولد مليكة، محمد الشابي، المرحوم ولد الطويل العباري، أحمد نصلوبي، المرحوم الحاج بلمراكشي، محمد الأحمر البصيلي.
**
المقالات الأخيرة لنفس الكاتب :
ـ مات الرجل الذي ختنك .
ـ خدام الدولة أوتاد المخزن .
ـ الدرب الجديد، لحيوط الى رابو .
ـ الدرب الجديد، الكهف المنسي .

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية