عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

أي دور للمثقف حسب النص القرآني ( من هم أصحاب الأعراف؟)

أي دور للمثقف حسب النص القرآني ( من هم أصحاب الأعراف؟)


أي دور للمثقف حسب النص القرآني
( من هم أصحاب الأعراف؟)
برشيد نيوز:بقلم الدكتور ظريف رشيد
من بين أعظم الإنجازات الفكرية التي عرفها القرن العشرين على مستوى الفكر الفلسفي كان تأسيس مدرسة فرانكفورت بألمانيا سنة 1923. وتكمن قيمة المدرسة الفكرية في كونها جمعت فلاسفة كبار كان همهم المشترك هو إحياء الفكر الماركسي باعتباره فكرا فلسفيا أخذ على عاتقه توجيه النقد للنظم السياسية وعلاقات الإنتاج والتوزيع بغرض تجاوز الجمود الذي سقط فيه جراء تحوله إلى عقيدة جامدة.
ارتبط اسم المدرسة بالنظرية النقدية التي جعلت من الفكر النقدي أساسا لكل إصلاح اجتماعي وسياسي، فالعلاقات الاجتماعية حسب هذه النظرية يجب أن تخضع باستمرار للنقد العلمي حتى لا تتحول إلى علاقة تغالب واستبداد، ينقسم بموجبها المجتمع إلى مستغِل ومستغَل، فيكون النظام السياسي نظاما قهريا ظالما.
لقد شكل الفكر الماركسي نموذج الفكر النقدي الذي أخذ على عاتقه الدفاع عن المقهورين والمستغَلين - طبقة العمال في المجتمع البورجوازي أو ما يطلق عليه البروليتاريا حسب التعبير الماركسي - وذلك بالكشف عن أساليب التمويه والتغليط التي تستعملها السلطة لتكريس الوضع والمحافظة على إنتاج نفس علاقات الإنتاج.
وقد أناط هذا الفكر بالمثقف دورا مهما في خلق وعي لذى الطبقة المقهورة من أجل تحريرها من أفكار الاستعباد وقيامها للدفاع عن حقوقها. وكانت هذه الفكرة هي الداعي إلى تأسيس مدرسة فرانكفورت التي ارتبطت بالنظرية النقدية مند هوركهايمر وأدورنو حتى ألفريد شميدت وأكسل هونت.
لم يقتصر النقد على الفكر الماركسي وآثاره في تأسيس مدرسة فرانكفورت، بل يمكن القول بأن النقد شكل الطابع العام الذي طبع الحداثة الغربية، مند القرن السادس عشر الميلادي، كما أصبح عنوانا لفكر ما بعد الحداثة في صورته التفكيكية.
 وإذا كان الفكر النقدي قد حقق تقدما كبيرا مند الحداثة وحتى ما بعد الحداثة على مستوى تشكيل مدارس ومذاهب وتأسيس مناهج وأسس للتفكير والبحث، فإن الرجوع إلى التاريخ يؤكد أن النقد لازم وجود المجتمعات البشرية مند القدم، وأنه متى انعدم النقد في مجتمع معين ولم تعد الفئة المتعلمة المكلفة بهذه المهمة تؤدي واجبها، أصيب المجتمع بالتخلف والضعف، ومتى استقوى النقد في مجتمع معين حقق هذا المجتمع قوة وتقدما. هذا ما يفسر القوة التي وصلتها ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية بالرغم من خروجها مهزومة في تلك الحرب، سواء على مستوى السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو العلم، فقد كان من بين المهمات التي قامت بها الحكومة ما بعد الحرب العمل على إعادة فتح معهد فرانكفورت، وعندما طلب من ماكس هوركهايمر مؤسس المعهد أن يعود لألمانيا ما بعد النازية لإعادة فتح المقر الأصلي للمعهد، اشترط هذا الأخير أن يتم تخصيص تمويل حكومي للمعهد، وقامت الحكومة بالموافقة لإدراكها أهمية البعد النقدي للفكر في التأسيس لمجتمع قوي ومنتج، ونظام سياسي يحقق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية. علما أن المعهد كان قد أغلق من طرف النظام النازي نظرا لطابعه النقدي الذي لا يتماشى مع سياسة الأنظمة الشمولية.
 لقد عرفت الحضارات الإنسانية مسألة النقد الذي يتوجه به العلماء والعارفون للنظام السياسي بأشكال مختلفة، ويشكل الفكر الديني في عمقه، دعوة لممارسة النقد واعتباره واجبا إنسانيا ودينيا لا يمكن الاستغناء عنه داخل المجتمعات البشرية.
فكيف عالج القرآن الكريم، باعتباره نصا دينيا يحمل قيم إنسانية وأخلاقية كونية، موضوع النقد الذي يجب أن يلازم النظم السياسية والاجتماعية، من أجل تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية بين مختلف مكونات المجتمع؟
إن النظر إلى النص القرآني وقراءته بعيدا عن التراكمات التي علقت به جراء التفاسير والشروح الموجهة من طرف السلطة السياسية، يجعلنا نعيد النظر في التعريف ببعض المفاهيم التي تم نحثها من طرف علماء الدين وشراح هذا النص الغني بالقيم الإنسانية. ولمعرفة حيثيات التحول الذي عرفه النص القرآني على مستوى التشريع والأخلاق، وبصفة مجملة "صناعة القيم" لا بد من استحضار مسألة "الإنتاج والتوزيع" التي شكلت محركا رئيسيا للصراع بين الأفراد والجماعات عبر تاريخ البشرية، كما يروي ذلك القرآن الكريم.
اعتمدت السلطة السياسية الموجهة للإنتاج الخطاب الديني على استراتيجية عدم قبول أي تفسير يخالف التفسير الذي يوافق توجهها. وقد كانت عملية الحصر تهدف إلى الحد من كل تفسير أو تأويل يجعل من مسألة العدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة بين مكونات المجتمع، وبصفة عامة مواجهة السلطة الحاكمة بالنقد، موجها لقراءة النص القرآني. بينما ركزت بشكل متطرف تلك التفاسير والشروح على مساءل التشريع وأحكام العبادات في استقلال تام عن مسألة الإنتاج والتوزيع التي شكلت العمود الفقري للنص القرآني.
عندما نقرأ أغلب التفاسير التي نالت رضى السلطة وأصبحت بمثابة ركيزة في علم التفسير، نتفاجأ بطابع الجمود الذي تقف عنه في تفسير وشرح معاني القرآن الكريم، حتى ليكاد المرء يجزم بأن هذا النص لا علاقة له باليومي والمعيش، ولا يهتم بواقع المؤمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بل هو مجرد حكايات وأقوال متناثرة لا يوحدها موضوع في غالب الأحيان، لها تأثير على عالم الأرواح والجن أكثر ما لها تأثير على الواقع الاجتماعي والسياسي للأفراد والجماعات، وإن تم النظر إليه باعتباره نصا تشريعيا اقتصر النظر على ما هو شخصي وشعائري.
انطلاقا من الإيمان بأن النص القرآني نص يكرم الإنسان بالأساس ويدعوه إلى مقاومة كل وساءل الاستعباد والظلم، وإيمانا بأنه كتاب منزل لخير البشرية جمعاء، سنقوم بالنظر في إحدى السور القرآنية التي تزخر بالقصص وتحكي عن الأمم السابقة من آدم إلى بني إسرائيل حتى عرب شبه الجزيرة، لنتفحص كيف تناول النص القرآني موضوع النقد الذي يجب أن يلازم الأنظمة، والذي تتكلف الفئة المثقفة والعالمة بإقامته.
تسمى السورة موضوع الحديث "سورة الأعراف"، وتأتي في المرتبة السابعة في ترتيب السور بالمصحف الشريف، فما الغاية من سرد قصص الأمم السابقة في هذه السورة؟ ولماذا سميت ب "الأعراف"؟ ومن هم أصحاب الأعراف؟ وهل هناك موضوع عام تعالجه آيات السورة في جملتها؟
عدد آيات سورة الأعراف 206 كلها مكية إلا ثمان آيات فقط، تبتدئ من الآية 163 إلى الآية 174. وبما أن السورة نزلت في مكة فلابد أنها تحمل في طياتها توجيها للمؤمنين الذين كانوا يعيشون المعاناة جراء استكبار الفئة المسيطرة في المجتمع القبلي العربي.
عندما ننظر في بداية السورة نجد أنها تركز في أول آية على مسألة الصدع بالحق دون خجل أو خوف من المستكبرين الطغاة. يقول تعالى في بداية السورة موجها الخطاب إلى النبي الكريم: (المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) آية 1-2 . فالهدف الأساسي حسب الآية من إنزال الكتاب هو الإنذار والتحذير، وليس التلاوة والترتيل دون تذكر ولا اعتبار. السؤال الذي يطرح نفسه بالتالي هو من الذي يجب عليه الإنذار؟ وتجاه من؟ وما موضوعه؟ ولماذا تحدث تعالى عن الحرج في هذا الموقف بالذات؟ وما هو مصدر الحرج؟
الآية التالية توضح مصدر الحرج بصورة واضحة، يقول تعالى: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) آية 3. وهذا يفيد أن الحرج يأتي من الولاء لأصحاب السلطة، فالشخص الذي يوالي المستكبرين وإن لم يكن هو مستكبرا وظالما، تضعه موالاته في حرج من أن ينطق بكلمة حق في وجه السلطة المستكبرة، ولذلك فالسبيل لعدم الوقوع في الحرج من قول الحق هو عدم موالاة السلطة بأي شكل من الأشكال.
فمن هم الأفراد الذين ملزمون بالصدع بالحق في وجه الطغاة وعدم الموالاة والسكوت على ما يرتكبونه في حق الضعفاء؟
الآية الأولى تحدد من يجب عليه التصدي للظلم، إنهم أصحاب العلم الذين أوتوا الكتاب / العلم، فأيما شخص أعطاه الله تعالى العلم بالحجج والبينات، وجب عليه الجهر بكلمة الحق ومواجهة السلطة بالنقد والتذكير.
بعد ذلك تتحول آيات السورة إلى الحديث عن عاقبة الأمم التي تجبرت في الأرض فأهلكها الله تعالى، (وكم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ") آية 4. وتبتدئ رواية قصص السابقين بقصة آدم الذي تكبر إبليس عن السجود له، فعصى أمر ربه الذي منحه حرية الاختيار، لتصبح الحرية بالنسبة له غاية في ذاتها دفعته للاعتداد بنفسه، وإبراز حريته ضدا في القانون الذي فرضه عليه مانح هذه الحرية. فلما سأله ربه تعلى عن سبب رفضه السجود لآدم مع الملائكة أجاب قائلا:(أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) آية 12. فإبليس انقاد وراء الطمع في تحقيق القيمة الذاتية على حساب آدم معتبرا أنه أقل شأنا لأنه مخلوق من طين وهو (إبليس) مخلوق من النار، علما أن تلك القيمة فضل من الله تعالى، وتستوجب القيام بإتباع أمره في توظيفها حتى لا يسقط المتفضل عليه في الإسراف والاعتداد بنفسه.
إن السبب في استكبار المستكبرين عامة هو إسرافهم في الاعتداد بأنفسهم عندما يستقوون بما تفضل به الله تعالى عليهم، فيتخلون عن الواجبات التي تفرضها تلك القيم المضافة، كالمال والسلطة والقوة وغيرها، حيث يؤدي بهم الغرور إلى الاعتداد بأنفسهم فينسون أو يتناسون أن تلك القيم مجرد منح إلهية تستوجب الالتزام بالقانون الإلهي الذي يفرضه مانح تلك القيم الإضافية. تتكرر نفس المسألة مع كل الأقوام الذين جاءت رسلهم بالبينات، فالقوة تؤدي للاستكبار ثم العصيان، ثم يتم تبرير العصيان بالقوة التي يمتلكونها والتي هي في حقيقتها فضل من الله وليست قيمة ذاتية لازمة. وهذا ما وقع لقوم هود وصالح وفرعون وغيرهم. إن مسألة تناسي الأفراد لواقعهم الإنساني واعتدادهم بقدرتهم الخاصة واستكبارهم، هو سبب الظلم الذي يقع بين بني آدم وسبب ظهور الفواحش.
من خلال قراءة القصص التي وردت في سورة الأعراف، يظهر أن المجتمعات الإنسانية تتكون من فئات مختلفة،  فهناك فئة تجنح إلى الإسراف في استعمال القوة بأنواعها، ويكون هذا الاستكبار على حساب فئة ثانية مستضعفة. فقوم لوط أفرطوا في استعمال المتعة وتجاوزوا ما هو مشروع، كما أفرط قوم شعيب في الغش وسرقة الميزان حتى أصبح عادة لهم، أما فرعون فقد أفرط في استعمال السلطة متناسيا القانون الإلهي، ليعلن بكل ثقة أنه أصبح الرب الأعلى ولا رب فوقه ولا قانون فوق قانونه. وقبل هؤلاء أفرط إبليس في استعمال الحرية التي منحه الله إياها ليعلن عصيانه لمن منحه القدرة على الاختيار.
بعد قصة آدم وإبليس وذكر تفاصيلها، ينتقل تعالى إلى تذكير المؤمنين بأنه ليس محرما على المؤمنين الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا والطيبات من الرزق، بل إن المحرم هو الإسراف الذي يؤدي إلى ظهور الفواحش والإثم والبغي في المجتمع. (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) آية 31-32
مباشرة بعد ذلك تنتقل آيات السورة إلى وصف مشهد من مشاهد الآخرة حيث تكون كل أمة قد عرفت مصيرها، كما يقع حوار بين الأمم داخل جهنم، فتلاعن الأمم من أصحاب النار ويتهم بعضها البعض بالغواية والتسبب في الهلاك.
وفي خضم هذه الحوارات تأتي الآية 46 لتخبرنا بأنه يوجد بين أصحاب النار وأصحاب الجنة حجاب، كما توجد "الأعراف" وعلى هذه الأعراف يوجد رجال، تقول لآية (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أية 46 ويتميز هؤلاء الرجال بميزتين أساسيتين: الميزة الأولى هو أنهم لم يدخلوا بعد لا الجنة ولا النار وهم يطمعون في دخول الجنة، والميزة الثانية هي قدرتهم على معرفة وتمييز كل فريق من الفريقين، فهم يعرفون أصحاب الجنة بسيماهم ويعرفون أصحاب النار بسيماهم. فمن يكون هؤلاء الرجال المتواجدين على الأعراف والذين لهم قدرة على إدراك السمات والعلامات.
الأعراف في اللغة تدل على معنيين اثنين، الأعراف: الأشياء المرتفعة، فعرف الشيء ما ارتفع منه، وبالتالي فالأعراف بمثابة العلامات والأدلة الموجهة، أما المعنى الثاني فله علاقة بما هو اجتماعي، فالأعراف الاجتماعية: هي العادات التي استقر عليها الناس فأصبحت بمثابة عرف من خلاله يتم الحكم على الأفعال وإعطاءها قيمة.
فهل يكون معنى الأعراف هو الجبل أو السور الموجود بين الجنة والنار، أم أن الأمر يتعلق بمعنى مجازي يراد به معنى له علاقة بما تتحدث عنه السورة من استكبار للمستكبرين وإسرافهم في استعمال القوة على حساب المستضعفين، وضرورة التصدي لهم بقول كلمة الحق؟
إن بلاغة القرآن الكريم تكمن في أنه لا يتكلم لغوا ولا يأتي بآية إلا لهدف وغاية، فما الغاية من ذكر الأعراف والرجال الذين فوقها، ثم ما الهدف من ذكر هذه الآية في سورة تركز على الاستكبار الذي يقوم به الأقوياء على حساب المستضعفين؟
إن ما يجعل من التفسير الذي يقول بأن أصحاب الأعراف أشخاص تساوت حسناتهم مع سيئاتهم غير معقول، هو الآية التي تأتي في مقدمة السورة والتي تقول: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) آية 8-9. فهناك عند الميزان أشخاص أفلحوا بثقل موازينهم وأشخاص خسروا لخفة موازينهم، ولم تذكر الآيات الأشخاص الذين تساوت حسناتهم بسيئاتهم، الشيء الذي يجعل من مسألة استواء الحسنات بالسيئات أمرا مستبعدا، مع العلم أن الحق سبحانه يضاعف الحسنات إلى ما لا يعد ولا يحصى إذا ما كنت الأعمال خالصة لوجهه.
فما الغاية من ذكر أصحاب الأعراف وهم في حالة انتظار وجهل بالمصير في هذه السورة؟ إن أصحاب الأعراف أناس أكرمهم الله تعالى بالعلم والمعرفة، ومنحهم القدرة على تمييز الحق من الباطل عن طريق إدراك العلامات / الأعراف، ولكنهم لم يشكروه على هذه النعمة، إذ لم يقوموا بما يستوجبه عليهم واجب العلم من توجيه وإرشاد ومواجهة المستكبرين بكلمة الحق وتغيير المنكر بكل أنواعه، فكان جزاؤهم أن يعيشوا على أقبح جهل، إنه جهل المصير الشخصي، لقد جحدوا نعمة الله وكتموا الشهادة فعوقبوا بالانتظار. لقد شاهدوا في الدنيا المستكبرين يمارسون الطغيان والمستضعفين يتألمون، وكانوا يعرفون أن ذاك ظلم وطغيان وإسراف، ولكنهم لم يواجهوا هذا الظلم والإسراف بالبينة لتغيير المنكر، فهاهم في الآخرة يشاهدون نعيم المؤمنين وعذاب الكافرين دون أن يستطيعوا الالتحاق لا بهؤلاء ولا بهؤلاء. ودون أن يعرفوا مصيرهم، إنهم يقومون بالمشاهدة جبرا لأنهم كتموا الشهادة طواعية.
وفي خضم هذه الحوارات التي تقع بين الأمم المعذبة في جهنم وبين أصحاب النار وأصحاب الجنة، يقوم أصحاب الأعراف بتوجيه الخطاب إلى المستكبرين من أصحاب جهنم ليخبروهم بأن قوتهم في الدنيا واستكبارهم لم ينفعهم في الآخرة، يقول تعالى :( وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) آية 48 لقد أعلنوا شهادتهم في حق المستكبرين ولكنها جاءت متأخرة، فالواجب أن هذه الكلمة كانت تقال في الدنيا وليس بعد أن قضي الأمر وأصبح المستكبرون في جهنم يعذبون.
إن الموضوع التي تناقشه سورة الأعراف هو الواجب الذي يناط بالفئة العالمة والمثقفة تجاه المجتمع والدين، حيث يجب عليها إنكار المنكر متى ظهر والتصدي له بالحجة والبينة وإعلان موقفها منه علانية. فمتى قام المتعلم بواجب توجيه النقد للسلطة القاهرة وناصر المستضعفين ارتفع إلى مصاف الأنبياء، ومتى ناصر المستكبرين أصبح ظالما، أما إذا لزم الصمت وكتم الشهادة حرجا أو خوفا كان من أهل الأعراف المعلقين.
إن ما يعضد هذا التفسير هو تركيز هذه السورة في قصة موسى وفرعون على واقعة إعلان السحرة اتباع الحق الذي ظهر على يد موسى عندما واجههم بالحجة البالغة، واقتنعوا بأنه ينطق عن حق. لقد كان السحرة أعظم علماء قوم فرعون، وكان من المفروض أن يدافعوا عن فرعون الذي استضعف بني إسرائيل واستعبدهم، ولكنهم وبفضل علمهم لم يوالوا الجبروت، وأعلنوا تأييدهم لموسى والاعتراف بضلال فرعون وظلمه، فأصبحوا نموذجا لإتباع الحق بعد أن كانوا نموذجا للتمويه والتغليط بعلم السحر الذي أوتوه.
لم يكن للسحرة من قوم فرعون أمل في النطق بكلمة الحق، ولكنهم لم يكتموا الشهادة في حق موسى وفرعون، ليس أملا في تغيير الوضع، وإنما التزاما بما يفرضه واجب العلم الذي لا يمنحه تعالى إلا لمن اصطفاه واجتباه. فليس من مسؤولية المتعلم والمثقف تغيير الوضع بالضرورة، ولكن من واجبه الصدع بكلمة الحق وإعلان رفضه للمنكر وتوجيه النقد للسلطة في جميع الظروف.
ولم تغفل السورة تلك الحجة التي يقول بها البعض ممن يبررون صمتهم تجاه الاستكبار بكون كلامهم لن يؤثر على الأقوياء المستكبرين، تقول الآية 164 حكاية عن بني إسراءيل: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فالإنذار والنقد لا يوجه فقط إذا كان مقبولا ومرغوبا ممن يوجه إليهم ويمكن أن يؤثر فيه بالضوروة، بل هو واجب ديني فرضه الله تعالى على كل من يملك الحجة والبينة على فساد الوضع دون اعتبار للآثار التي قد تنجم عنه. إن شهادة العالم والمثقف في حق المستكبرين هي العذر الذي سيواجه به ربه بكونه عاش في ظل نظام سياسي واجتماعي ظالم وفاسد.
إن ما يؤكد أن المراد بأصحاب الأعراف الذين سميت باسمهم السورة هم الفئة المتعلمة أو المثقفة التي تخلت عن واجب النقد، هو التركيز في آيات متعددة على الفئة التي تعرف الحق وتدعوا إلى الاهتداء به. ففي سياق الحديث عن بني إسرائيل يقول تعالى" وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ" آية 159. وبعد نهاية الحديث عن بني إسرائيل يتحدث تعالى عن الخلق أجمعين فيقول: " وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ" آية 181. فهؤلاء قوم عرفوا وتعدت معرفتهم لغيرهم ولم يكتموها، فأصبحوا مثالا للهداية والعدل.
علاقة بموضوع العلم وما يستوجبه من القيام بتقديم النصح والتوجيه للمجتمع والسلطة يقول تعالى عن موسى وقومه: (وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) آية 154.  وكيف أصبح حال العلماء الذين ورثوا الكتاب والعلم من الأجيال اللاحقة، يقول تعالى: ( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) آية 169. بعد ذلك يتحول القرآن الكريم للحديث عن بني آدم عامة، حيث يخبرنا تعالى بأنه أخذ العهد منهم وهم في أصلاب آباءهم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) آية 162. هناك دائما التركيز على علاقة العلم بالانتصاب لتغيير المنكر.
بعد أن عرفنا من هم أصحاب الأعراف، وما هو الواجب على العالم والعارف، نطرح السؤال التالي: ما هو حكم الشخص الذي آتاه الله العلم فتخلى عن واجبه تجاه مجتمعه وكتم شهادة الحق ولم يناصر المظلومين ولم يصدع بالحق في وجه المسرفين المستكبرين؟
بصيغة أخرى: ما هو رأي الدين في الشخص الذي اكتسب الآلة والعدة لتوجيه النقد للسلطة ولكنه لم يفعل طمعا في نوال رضاها أو خوفا من بطشها؟
بالرغم من كل ذلك ما زال لم يتضح لنا حكم العلماء الذين التزموا الصمت حرجا من قول كلمة الحق في وجه السلطة المتجبرة، فقد أخبرنا تعالى عن أصحاب الأعراف بأنهم لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها، ولكنه لم يقل لنا حكم القرآن في حق من عرف وأوتي العلم بالحق ولم يصدع به في وجه المستكبرين.
بعد الانتهاء من قصص السابقين وفور أن انتقل القرآن الكريم لتوجيه الخطاب إلى المجتمع الذي كان يعيش فيه الرسول مع أصحابه، يأمر تعالى الرسول بأن يقص عليهم قصة الشخص الذي آتاه الله العلم بالآيات فانسلخ منها "اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ" آية 175-176.
فهذا شخص قد آتاه سبحانه وتعالى الآيات والبينات والعلم والمعرفة، ولكنه انسلخ منها، أي لم يؤد الواجب الذي ألزمه الله به ليشهد بالحق جهرا في حق الظلم بالحجة والعلم الذي أعطاه الله إياه، وبهذا انسلخ من الواجب فأتبعه الشيطان وغوى، فلا قيمة للعلم والمعرفة إذا لم يكن أثرهم ظاهرا في مواجهة المستكبرين، فالعالم والعارف الذي لا ينتصب لمواجهة جبروت المستكبرين لا قيمة لعلمه ومعرفته مطلقا، وقد أخلد إلى الأرض خوفا على حياته ومصالحه، ولم ينتصب لمواجهة الظلم، فحاله كحال الكلب يلهث في جميع الأحوال، فهو منهك من الخوف يعيش الضنك والرهبة. وليس عبثا أن يقول سبحانه وتعالى في خضم الحديث عن هذا الشخص" فاقصص القصص لعلهم يتفكرون" بمعنى أن الغرض من القصص الذي أتى به في هذه السورة، إنما هو التذكير بالواجب الذي وضعه الله تعالى في رقبة كل متعلم وعارف، والذي هو إخبار الظلمة بأنهم ظلمة وتوجيه النقد لأفعالهم الفاحشة، وتحريض الضعفاء على مقاومتهم.
هناك علامة أخرى في نفس السورة تدل على أن جزاء من يتخلون عن واجب النقد وتغيير المنكر هو الهلاك، ما رواه تعالى عن ما وقع لبني إسرائيل حينما عبدوا العجل ولم ينهوا بعضهم البعض عن المنكر الذي فعلوه، فلما رجع موسى هاله ما فعله قومه بعده، فاختار سبعين رجلا لميقات ربه يسألونه التوبة والمغفرة لهم ولغيرهم، غير أن هؤلاء السبعين أخذتهم الرجفة يقول تعلى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) آية 155. فهل كان موسى سيختار غير العلماء من قومه لميقات ربه؟ والظاهر أنهم لن يشاركوا في عبادة العجل، ولكنهم لم ينهوا قومهم عن ذلك، وإلا لما قال موسى لربه أتهلكنا بما فعل السفهاء منا. فهؤلاء السبعين علماء عارفين بأن ما فعله السفهاء معصية وكفر، ولكنهم لم يقوموا بواجب تغيير المنكر الذي يفرضه عليهم علمهم فعوقبوا بأن أخذتهم الرجفة.

هذا هو واجب رجل العلم تجاه مجتمعه وربه، من خلال السورة الكريمة، ويدخل في دائرة العالم هنا كل من أوتي  قدرة تمييز الحق من الباطل واكتسب القدرة على الإفصاح بالحجة والبينة، فليس العالم هو الشخص الذي يعرف الفقهيات والشريعة، فالعصيان لا يتعلق بترك واجبات العبادة وحدها، وإنما يقع العصيان حسب السورة أساسا فيما يتعلق باكتساب القوة المادية والرمزية التي تخول لصاحبها القدرة على التحكم في وساءل الإنتاج والتوزيع أو الإفراط في استعمال المتع. فالعالم يشمل المثقف وكل من يملك علما يؤهله لإدراك الإسراف والشطط في استعمال السلطة ويمكنه صياغة الحجج للبرهنة على تنبيه المجتمع على أن هؤلاء المسرفين تجاوزوا الحد المشروع.
الدكتور رشيد ظريف باحث في مجال الخطاب الديني والسياسي

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية