عاجل آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خير عاجل

الباشا السي إدريس مع وفد الطلبة المغاربة بباريس سنة 1925

الباشا السي إدريس مع وفد الطلبة المغاربة بباريس سنة 1925

FIN 


الباشا السي إدريس مع وفد الطلبة المغاربة بباريس سنة 1925


بقلم: الجيلاني طهير


1. عيد بئر الثور


في ليلة رمضانية سبقت عيد الفطر بيومين، اجتمع أهل دوار أولاد لحسن ببئر الثور يراقبون بزوغ هلال العيد، مستعجلين مستهل شوال. كانت ليلة ليلاء مظلمة، سماؤها مقبطة الأسارير فيها عبوس وجهامة، يمد المرء بصره باحثا في جنباتها عن الهلال فلا يجد غير ركام الغمام .


استأنس الجمع بخدمات السي حسن الدكالي،  فقيه الدوار، وكانت له عين لا يبصر بها  فسعى جاهدا أن يعثر على  خيط  باهت من الضياء بين السحاب،  لكن سعيه كان عبثا ضائعا وجهدا عقيما. وبعد طول الصبر والانتظار،  انطلق  صوت من الجماعة  يقول: " راه راه، والله تراه".   كان  المنادي يتوهم  أنه  يرى دفقة ضياء  تظهر وتخبو تحت الغمام، فسرت العدوى بين الجميع  حتى  انطلقوا  كلهم يرددون لبعضهم البعض: " راه  راه ،  راه  شويا منو بان،  راه كيمشي ويجي مع السحاب"، الخ.  بقي الفقيه السي حسن متحفظا في غفلة من الجميع، ولما التفتوا إليه يأخذون  يقينه،  وجدوه يقول معهم: " إيه، هو هداك، الشهر يبان للأعمى".


 غدوا مستبشرين وراحوا إلى خيماتهم، وقالوا لزوجاتهم وأمهاتهم يا بشرى العيد غد موعده،  اخبزن البطبوط والبغرير ، فإنا  جميعا بكرة من المصبحين بالعيد على كبيرنا الشيخ بوشعيب.  ثم أنهم  أبطلوا السحور وتعشوا وناموا على نية العيد إلى صلاة الفجر. ففي دوار  بئر الثور ، وبحسب العادة، كل من تخلف عن صلاة الفجر مع الجماعة بدون إنذار مسبق،  يلتزم بنحر فروج بلدي،  شرط أن يكون من فصيلة نوار الفول، ويعمل به زردة يدعو  لها الآخرين.


لما أصبح الصباح، كان البغرير المدهون بالعسل الحر يغري النظر  بالأكل حتى الشبع، والشاي الأخضر المنعنع  يحلب الريق إلى الارتواء حتى النشوة. وكل من يشاهد قريبه أو جاره يلقاه بالعناق والصغار لابسين كسوة العيد ينحنون ويقبلون أيادي الكبار. وفي جو مشرق وبهيج، أقبل الجماعة يحملون الأطباق والصواني، مفعمة بأطيب الأكولات وأجود الحلويات  لبيت الشيخ  بوشعيب، راجل بنت الرغاي، وهم كالعادة في رزانتهم ووقارهم  يتبادلون الأخبار الطريفة والنكت المسلية.


  الشيخ بوشعيب صباح العيد يكون أنيقا كأنه الطاووس يفرش جناحيه بين الأهل والأحباب، رفع السماعة وتلفن لأخيه السي إدريس بسطات، وكان هو الباشا في تلك المدينة  وبارك له العيد السعيد.  هذا الأخير، تلقى التهنئة باستغراب وتلفن بدوره  للباشا  محمد برشيد بعاصمة أولاد حريز  يبادله التبركة.


-  بماذا تهدر يا رجل؟ ماذا تقول بالله عليك؟ ماذا تقول يا أخي؟ إن كلامك عن العيد  لغريب...


-  أقول لك  راك عندك دوار معيد، وأنت ما سايق خبار...


ضرب الطرفان موعدا للقاء  بدوار أولاد لحسن عند الشيخ بوشعيب،  ثم ركب كل سيارته  ولم يقفا حتى بلوغ المكان.  عند الوصول، لم يكن الجمع قد انفض بعد، ووجدوا الشيخ بوشعيب وإخوانه  في  السرور والحبور، لا يزالون يتناولون الطعام، ويتعاطون الشراب، ويتبادلون الأحاديث المستملحة  بين نكهة الشاي المشحر ولذة  المدهون بالسمن والعسل.  لن يبارحوا المكان إلا لصلاة الظهر ثم سيعودون للاجتماع حول الكصعة الكبيرة من الكسكس وفي قعرها أكوام اللحم  المغطية بأنواع الخضار.


لعل القارئ يسأل بعد هذا ما حصل بين الباشا برشيد والشيخ بوشعيب ؟ قالوا: تبثث رؤيته  بعين السي حسن الأعور، العتب على النظر، وضحكوا جميعا. ولا يمكن للباشا برشيد التفكير في تغريم عائلة الباشا إدريس، وما أدراك ما الباشا إدريس، وهو من يشار إليه بالبنان أنى حل وحيثما ارتحل.


***


2. عيد بني منيار


ذات يوم من أيام الصيف القائظة، وفي ليلة رمضانية   سبقت يوم عيد الفطر بومين، كان ولد الطاهر بن جعفر، ابن مقدم دوار بني منيار، يجوب أطراف القيسارية بعد أذان  المغرب، مع صديق  من السلاهمة لحباشة. مر بالقرب من دكان حلاق مجاور للملاح، يملك جهاز راديو كنت تراه يخرشش فيه باستمرار بحثا عن الموجات الشرقية،  فصافح أدنيه صوت  أم كلثوم وهي  تصدح بالأغنية الجميلة من لحن السنباطي:


يا ليلة العيد آنستينا ... وجددتي الأمل فينا
هلاك هل لعنينا ... فرحنا لهوغينينا
وقلنا السعد حيجينا ... على قدومك يا ليلة العيد


  سمع  ولد الطاهر "قدومك ياليلة العيد"،  فابتهج وفهمها إعلانا رسميا  بالاحتفال بالعيد، ثم انطلق  كالرمح  إلى الخيمة فرحا مسرورا، حاملا البشرى والخبر السعيد.  أبطلت خيمة المقدم  السحور وتعشوا وناموا على نية العيد دون بقية الدوار.  ومع إشراق الشمس،  كان الشاي يكشكش في الكيسان والبطبوطة تنطح البطبوطة في الطبسيل بخيمة المقدم ولد جعفر، فأكلوا  وشربوا، ولم يبق  غير  أخ  لهم غير بعيد، كان يحرس حقل الدرة من أعلى العشة، أرسلوا له فطوره إلى عين المكان.


  كان يسكن بالدوار رجل اسمه الفيل، يبيع ويشتري في البيض، جعله الخليفة عبد السلام برشيد أمينا على البياضة،  بسبب الجرأة وعدم تحفظه  في القول والفعل مع الناس.  وقع بصر الفيل على  حامل الطبسيل الخارج من خيمة المقدم  فانطلق يحث الخطى حتى أصبح بينه وبين الولد  أقل من مرمى طوبة، دون أن يحس الولد بالسير خلفه، وطرح عليه السؤال تلو السؤال، وطلب منه أن يقص عليه القصة ففعل.  ارتاح الفيل لسماع الحكاية وسر واضطرب، انتفخ كالديك المزهو بنفسه وطاوعته نفسه بالتبليغ عن الحدث،  فسيكون له  بذلك الشرف للمثول بين يدي الخليفة السي عبد السلام، وإن تلك الساعة من العمر  بالنسبة إليه لمن نعم الزمان.


 انطلق السي الفيل من ساعته إلى دار الخليفة، في عنفوان كلب قطع سلسلته. فلما أتاها دخل وسلم تسليم الطاعة، ثم روى للخليفة ما رأى وما سمع من حامل الطبسيل، قائلا له: " لا تسال لا تسول نعام آس،  الكويفر ديال المقدم  الطاهر واكل رمضان نعام آس، وبغا يوكل معاه الدوار كلو نعام آس ".


عند سماع الخبر، أرسل الخليفة السي عبد السلام مخازنيته في طلب المقدم ولد جعفر على وجه السرعة، وما أن وقفوا ببابه حتى اصفر وجهه وأحس أنه وقع في محظور  سبحان المنجي منه. فسيق  المسكين مبهوتا، وهو  يلعق عن شاربيه  حلاوة العسل،  نحو حكومة الصوام والقوام، منتوش الريش مكسور الجناح.  هناك، وجد في انتظاره رجلا ذو وجه صارم وفي كلماته ضرب من العنف. سلم عليه المقدم سلام الواجف الخائف، تتعثر الكلمات على لسانه تعثرا مشفقا، حتى ليكاد يتدحرج بين قدميه من الذل والهوان. اعترف المقدم بما نسب إليه من أكل مؤخر رمضان، واستصفح سيده ومن غير جدوى،  ثم جيئ بباقي الفاطرين من أهله  فردا فردا، لبثوا ساعات طوال جامدين في مكانهم، واقفين مجبدين أمام دار الخليفة، وما غادروها حتى أدوا الغرامة عن أكل  مؤخر رمضان.


كان الخليفة السي عبد السلام رجلا مهابا، وهذه قصة من خارج السياق تعطينا فكرة عن شخصية الرجل. فيحكى أنه جاء ذات يوم بقطعة قماش أردا أن يخيط منها جلبابا، ورماها  بين يدي المعلم العكازي التعلاوتي الخياط، الذي كان ساعتها منهمكا في عمله. رفع العكازي بصره فوجد الخليفة السي عبد السلام واقفا منتصبا قبالته، بلا حراس ولا مرافقين، العظمة كل العظمة في اختلاط مع العامة بالقيسارية. انحبست أنفاسه وأصابته الرعشة ولم يقو على مسك القماش. كان الخليفة يعرف عن المعلم العكازي أنه أحسن خياط ومن أصحاب النشاط، ولذلك رمى له بقنينة خمر وأمره بالشراب حتى الرعاف. وفجأة، زالت الرعشة  وعادت السكينة وتوقفت اليدين والشفتين عن الارتعاد.  فمع شرب الكأس الأولى، استرد العكازي هدوءه المعتاد وتحدث إلى الخليفة كرجل هابطا إليه من رفيع منزلته، حديث الصديق للصديق والند للند، يحاجيه بالكلمة الطيبة والعبارة المهذبة،  فطابت نفسه وطاوعت يداه المقص والإبرة، وفصل وخاط الجلباب على المقاس.


عودة لقصة السي الفيل،  لما فعل ما فعل في حق لمقدم ولد جعفر، لم يكن لغرض الوشاية  أو احتلال منزلة أو مكانة على حسابه، كان الهدف هو تصفية  حساب قديم جرى بينهما وجاءت الفرصة المناسبة ليرد له الصاع صاعين، وها هي التفاصيل للذكرى والاعتبار: 


 ذات يوم ، وقع خصام بين البياضة في الدوار، فعزموا على الذهاب للباشا يفصل في أمرهم.  وأثناء السير في الطريق إلى القصبة الجديدة،  التقوا بالفيل فأصلح بينهم، وعادوا لحال سبيلهم. ولما وصل الخبر إلى المقدم الطاهر ولد جعفر، غضب غضبا شديدا، واعتبر ما قام به الفيل تطاولا على اختصاصه، وتفويت الهمزة عليه في جني دريهمات من المتخاصمين، ثم نقل الخبر للباشا:


 - " نعم آس، لا تسال لا تسول نعم آس، الفيل عاد يفصل وخيط في الدوار نعم آس،  عاد يلقى في الطريق نعم آس،  منو الأمين ديال البياضة ومنو  المقدم نعم آس،  شوف بينا وبينو نعم آس، خصو يلزم حدودو نعم آس ".


أرسل الباشا المخزني المدعو عمرو  قم في طلب الفيل. كان عمرو قم معروف عنه القول الآثم والألفاظ المنكرة، ولما جاء إلى دوار بني منيار، وكانت تربطه صداقة  " دعاوي البلا" بالفيل، قال له: أمرني الباشا أن تأتي معي، وقص عليه ما أبلغه المقدم عنه، ونصحه أن يجهز نفسه: " وجد ما تقول، را ولد الحرام حفر لك، وشعل فيك العافية، وهادي الأخرة لك".


قال الفيل لعمرو قم: " واهلي على  الطويهر، خرجت ليه خاوية،  ما تضرب حساب. هادي وكان، هي الساهلة عندي". ثم أن الفيل هيأ كلاما وأخذ من المال ما يحتاج إليه ووضعه في جيبه، وذهب  رفقة  عمرو قم عند الباشا في محكمته.


كان الباشا  مهابا لا يجرؤ الذباب الأزرق من الاقتراب من كرسيه. كان يعاقب الذنب الصغير أشد العقاب، فكيف مثل هدا الذنب العظيم الذي يشبه انتحال صفة مقدم والتطاول على سلطة المخزن. قال الباشا: "ما كنت أظن أحدا قادرا على تجاوز حده ليقدم على ما أقدمت عليه، فكيف أنت مع صغر شأنك جعلناك أمينا على البياضة أخذت تحكم في الدوار. ما أجد في تأديبك خير من سجنك كي تكون عبرة  وموعظة لمن عساه أن يفعل فعلتك" .


ولما أمر بسجنه، قال الفيل: " أعترف بذنبي وخطئي والله ما قصدت إلا خيرا لكم يا سيدي ، أردت راحة بالكم يا سيدي ، البياضة كلهم صداع، وأنا جبت لك حقك منهم  نعام آس ". ثم أن الفيل وضع يده في جيبه وأعطى الباشا ورقة مالية كارية هي 200 ريال في ذلك الزمان.


قبل الباشا عذر الفيل فعاد آمنا سالما إلى خيمته وهو يقول مع نفسه: " والله لن يستريح قلبي دون أن آخد بثأري من لمقيدم ولد جعفر"، حتى جاءت المناسبة في شهر رمضان وكان الانتقام. 

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية